نشأ هذا الحزب كرد فعل على التطورات الراديكالية في تونس الخضراء، وبقدر من التساوق والاختلاف مع هذه التطورات، ومن أجل غاية برغماتية ظرفية تتمثل في الوصول إلى السلطة التشريعية وسدة الرئاسة. ولا شك في أن النتائج التي تحصل عليها في الانتخابات البرلمانية، قد زكت مبرر إنشائه، فقد رأى فيه كثرة من الناخبين نموذجاً للتغير مع الاستمرارية، استمرار النهج العلماني الذي طبع الحالة التونسية بطابعها مع إقصاء رموز الفساد.
الأزمة التي يشهدها الحزب«الأول» منذ أسابيع تشي بأن الحزب بصيغته الحالية بدأ يستنفد أغراضه الآنية، وأنه أمام تحدي إعادة بنائه، أو التعرض لحالة انشقاقية. بدأت الأزمة بصراع بين أمين عام الحزب محسن مرزوق، والقيادي في الحزب حافظ السبسي نجل مؤسس الحزب. مرزوق وفريقه يجهرون بأنهم لن يسمحوا بأن يسير الحزب على طريق التوريث، فيما أنصار هذا الأخير يقولون إن مرزوق توجه إلى الولايات المتحدة وعاد منها بأجندة تستهدف الرئاسة ومؤسساتها. علماً أن الرئيس السبسي هو حالياً وبحكم موقعه رئيس شرفي للحزب ولا يقوم بمهمات حزبية فيما يتولى محمد الناصر( رئيس البرلمان) رئاسة الحزب.
أجواء عدم الثقة المتبادلة هذه، وصلت إلى حد الشجار وتعطيل عقد الاجتماعات واللجوء إلى التعارك خلال اجتماع عقد في مدينة الحمامات، ثم بلغت ذروتها باستقالة 32 نائباً من عضويتهم في حزب نداء تونس ما أنقص عدد نواب الحزب من 86 إلى 54 نائباً، لاحتجاجهم على عدم تنظيم اجتماع عام للحزب، وقد كان بإمكان هؤلاء الضغط على قيادات الحزب بوسيلة أخرى، من أجل عبور الأزمة، غير أنهم بخطوتهم هذه وضعوا أنفسهم خارج الحزب، بدلاً من التأثير عليه من داخله. وهو الأمر الذي جعل حزب النهضة صاحب الكتلة البرلمانية الأكبر ب 68 نائباً. وبذلك نجح حزب نداء تونس في منح الصدارة النيابية مجدداً للنهضويين!!. وقد سارع هؤلاء للقول إنهم لن يتصرفوا بطريقة انتهازية في استغلال أزمة الحزب المنافس التي تكاد تلامس الانشقاق، علماً أن النهضويين يشاركون في الحكومة التي يترأسها منذ يناير 2015 الحبيب الصيد بأربعة وزراء ثلاثة منهم وزراء دولة.
هذه الأزمة التي تعصف بالحزب الذي نشأ بعد الإطاحة ببن علي تثير الاهتمام، إذ إنها تشير إلى منحى التطورات السياسية في هذا البلد الذي يوصف بأنه أنجز أفضل تجارب موجة الربيع العربي.
فإلى جانب حزب نداء تونس وحزب النهضة، فإن ثمة 31 مقعداً نيابياً تتوزع بين الاتحاد الوطني الحر وهو حزب ليبرالي (16 مقعداً) وحزب الجبهة الشعبية اليساري ( 15 مقعداً). بما يُبقي التنافس داخل البرلمان وفي الحكومة بين الحزبين الكبيرين. ومن الملاحظ أن أطرافاً أخرى لم تتدخل أو تتوسط لتطويق الأزمة. وحساسية هذه الأزمة تتمثل في أن حزب نداء تونس هو الذي أوصل مرشحه ومؤسس الحزب قائد باجي السبسي إلى سدة الرئاسة. وتشدد الرئاسة في تصريحات متكررة على أن مصلحة تونس فوق الأحزاب، وأن الرئاسة على مسافة واحدة من الأحزاب. إلا أن الرئاسة سعت مع ذلك لعقد اجتماع بين الفريقين المتنازعين، ولم يتيسر عقد هذا الاجتماع بجناحيه المتنازعين، إذ استنكف البعض عن الحضور ما أبقى الأزمة مفتوحة، حيث يدور الخلاف حالياً بعد الاتفاق على الاحتكام إلى مؤتمر عام، حول سبل عقد مؤتمر عام تأسيسي، ومن هي الهيئة التي سوف يُناط بها مهمة الإشراف على المؤتمر وتنظيم أعماله بما في ذلك اختيار المندوبين المشاركين فيه.
في واقع الأمر أن هذه الأزمة السياسية هي أزمة حزب يبحث عن هويته السياسية وتمثيله الاجتماعي والثقافي، بعد أن أدى مهمته الرئيسية التي انتدب نفسه لها، بالحؤول عبر الوسائل الديمقراطية دون هيمنة الإسلاميين على الفضاء العام وبالذات على السلطة التشريعية. وكان إسلاميو النهضة قد ارتضوا بحل البرلمان الذي كانوا يتصدرونه منعاً لأزمة سياسية محتدمة نشبت قبل زهاء عامين على خلفية اغتيال ناشطين يساريين اثنين، واتهام الحكومة التي كان يتصدرها الإسلاميون بأنها لم تفعل ما يجب عليها فعله لتطويق الإرهاب.
انحسر خطر الإرهاب إلى حد بعيد عن تونس، لكن الجوار الليبي يثير توجساً دائماً، وكذلك التحاق مئات من التونسيين بمنظمات متطرفة. هناك تلاق بين مكونات المجتمع السياسي على أولوية مواجهة الإرهاب، غير أن المشهد السياسي أصابه قدر من الاختلال مع الأزمة التي تعصف بحزب نداء تونس.
والمأمول أن تبقى هذه الأزمة في إطارها الحزبي ولا تتعداه، من أجل أن تمضي تونس على طريق النجاح الذي حققته، بما انعكس إيجاباً على السلم الأهلي والتماسك الاجتماعي، وعلى استقرار مؤسسات الدولة.