نون والقلم

الوحدة حلم وعلى يد صالح جريمة

يستحيل أن تنتهي قصص الفساد التي أوغل فيها، وأتقن دورها علي عبدالله صالح طوال حكمه لثلاثة عقود، ولا أظن أن الملل سيصيب القارئ في متابعة حلقاتها التراجيدية المخيفة والأكثر إيلاماً، فهي مشاهد تركت جروحها الغائرة في جسد اليمن الجغرافي، وفي الجنوب بوجه خاص، كون الجنوب أصبح بعد حرب 1994 هدفاً مكشوفاً، حيث باءت محاولة الانفصال التي قادها علي سالم البيض بالفشل، وترك الجنوب ورجاله ومؤسساته السياسية والاقتصادية والإدارية مشاعاً لصالح وأعوانه، وفيهم الكثير ممن يشغلون الآن مواقع قيادية في المقاومة التي تشارك في المواجهات العسكرية وفي القيادات السياسية الناشطة ضده وضد عصابات الحوثيين المتحالفة معه.

كان صالح يتعامل مع الجنوب بعداء مستحكم وحقد دائم وهو الذي قطع على نفسه الوعد بتحويل عدن إلى قرية خربة، وطفق منذ يومه الأول للانفراد بحكم الجنوب في تصفية الحسابات مع مواطنيه الأبرياء الذين لم يكن لهم حول ولا طول في الوحدة حين أُعلنت، أو محاولة الانفصال حين قامت، فقد كانت صناعة اشتراكية صرفة (أي بالحزب الاشتراكي) في الوحدة وفي محاولة الانفصال من دون أدنى مشاركة من القوى الوطنية الجنوبية التي لم يكن ليعترف بها كجزء من الحركة الوطنية، فالأرض والدولة للاشتراكي، وما عدا ذلك عدم لا وجود له.
فقد سمعت بأذني قصص اتخاذ قرار الوحدة بين البيض وعفاش؛ وكيف أخرست مفاجأتها الجميع. وكنت أستمع للقصة على لسان أحد النادمين على ما جرى من خيانات لرفقاء السلطة في الشمال والجنوب أثناء محادثات الوحدة في عدن عام 1990، التي فرض فيها قرار الدمج على الجميع من جانب القيادات العليا في الحزب الحاكم وحكومة جمهورية اليمن الديمقراطية، والحكومة ومجلس النواب في الجمهورية اليمنية معاً.

يقول القيادي الاشتراكي صاحب الرواية والإحساس بالذنب يملأ قلبه والشعور بالقهر يملأ جوارحه، إن أحداث ذلك اليوم المشؤوم لم تأتِ من فراغ، فقد كان «الرفاق» وهي الصفة التي كانوا يحرصون على ترديدها عند الإشارة إلى أعضاء الحزب لتمييزهم عن بقية المواطنين وتيمناً بلفظ «كاماراد» الذي كان يطلقه لينين على البلاشفة أعضاء الحزب الماركسي اللينيني بأن صراعاً خفياً كان يدور ويتصاعد بين أعضاء المكتب السياسي وقيادة الدولة من جهة؛ وبين علي سالم البيض من جهة أخرى.
وكان هناك شبه إجماع على إزاحة البيض من موقعه القيادي بسبب فشله الذريع في إدارة الحزب والدولة، وأن تنفيذ القرار لم يكن سوى مسألة وقت، وكان الاتجاه يسير نحو اختيار قيادة شابة تتصف بالوعي وبالقدرة على إدارة البلاد، بعد أن بدأت تترنح إثر تخلي السوفييت عنها. وجاء صالح إلى عدن في زيارة خاطفة وبدأت أخبار الوحدة تتصاعد وتتناولها أجهزة الإعلام وبشكل يتصف بالحذر، وبعدم اليقين ومن دون الولوج في التفاصيل.
ويمضي القيادي الاشتراكي قائلاً: إن البيض ذهب إلى صالح إثر اجتماع موسع شارك فيه كل قيادات الحزب والدولة، وأعطى البيض تعليمات صارمة ومحددة بعدم الالتزام بأية قرارات ملزمة للوحدة، وإنما يُكتفى بالاتفاق على تفعيل محادثات الوحدة بين اللجان المشكلة بين البلدين؛ والقائمة لهذا الغرض. ولم يبق وفق رواية المسؤول أدنى شك في أن البيض رمى بقرارات حزبه عُرض الحائط وبادر بالتوقيع على اتفاقية الوحدة من دون العودة إلى مؤسساته السياسية، بل إنه عاد إليهم مبتسماً مزهواً بانتصاره عليهم حاملاً بيده وثيقة الوحدة التي شكلت له منفذاً للهروب إلى الأمام والاستقواء عليهم بدولة مجاورة، وبعلي صالح ووثيقة دمج كامل للبلدين، والموافقة على تسليم صالح شرعية ضم الجنوب من دون قيد أو شرط.
ويمضي المسؤول، إن الابتسامة كانت تعلو وجه البيض؛ وهي في نظره لم تكن ابتسامة تجسد فرحته بقيام الوحدة، إنما كانت ابتسامة النصر على رفاقة، فلم يكن فيهم من يمتلك الشجاعة لمقاومة صالح والبيض معاً، فقد كانوا ضعفاء لا يوجد بينهم شخص واحد قادر على رفع صوته للاعتراض على اندفاع زعيمهم وقائدهم التاريخي، كما كان يحلو لهم تسمية الرعيل الأول من قادتهم الذين ذهبوا وقوداً لصراعات الاحتراب القبلي المتلحف برداء الماركسية، فمنهم من نفذ فيه حكم الإعدام بدم بارد على يد زملاء أو رفاق كما حدث لسالم ربيع علي، الذي تمت تصفيته بأمر من عبدالفتاح إسماعيل، ولأنهم قوم لا يعرفون العهود والمواثيق كما هو حال الحوثيين في الوقت الحالي، فقد أوهموه بأنهم اتخذوا قراراً بنفيه إلى الصين.
لكنهم عوضاً عن ذلك أطلقوا عليه النار من مسافة قريبة بعد أن قال عبارته الشهيرة: «لقد فتحتم على أنفسكم باب الجحيم»، وقد تحققت نبوءته حين أكل الرفاق بعضهم البعض في وجبة واحدة، للدرجة التي وجدت جثة كبير القتلة عبدالفتاح إسماعيل متفحمة داخل دبابة وهو يحاول الهرب بجلده، يوم أن حان موعد الحساب، وحين تحققت نبوءة سالم قبل إعدامه.
جريمة صالح كانت في قيام الوحدة وفي الإجهاز عليها وتركها في موات سريري طويل وتدمير المؤسسات السياسية في الجنوب ثم مصادرة ممتلكات المواطنين الفقراء، وتسريح الجيش وقطع رواتب ومستحقات أفراد القوات المسلحة وموظفي الدولة.. وهذه في الواقع أبشع جرائمه على الإطلاق. أما جرائمه في حق الوحدة وتحويل أبناء الجنوب إلى دعاة استقلال أو كما يقول البعض انفصال فإنها جريمة من الدرجة الأولى، ينبغي للجنوبيين ألّا يتركوها تمر بسلام، ولابد أن توثق هذه الجرائم بانتظار الفرصة السانحة لرفعها إلى القضاء الدولي باعتبارها قضايا تتعلق بانتهاك حقوق الإنسان في الجنوب، وزرع الكراهية بين أبناء الشمال والجنوب، وإصراره على اعتبار الجنوبيين رعايا لا مواطنين أو مواطنين من الدرجة الثانية.
يبقى أن نضيف إلى أن موضوع الحديث عن الوحدة رغم أهميته يحتاج إلى بعض الوقت، وأن التحالف القائم الآن بجناحه الخليجي الكبير سوف يجد، بإذن الله، الصيغة الملائمة لمستقبل اليمن والمنطقة بأسرها. ومع أهمية هذا الطرح الذي يسهم في إفساح المجال لمعرفة بعض المواقف والأفكار، واعتبار ذلك متنفساً مطلوباً سوف يصب في مجرى البحث عن حلول ناجزة لمواجهة التحديات التي تنتظر اليمن والتغلب عليها بعد التحرير بإذن الله.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى