نون والقلم

الطائرة الروسية والتسديد خارج المرمى

لعل أكثر ما يثير الدهشة والاستغراب، إزاء الحملة السياسية الإعلامية المكثفة الجارية تباعاً ضد ما يبدو أنه تقصير أمني مصري تسبب في سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء، هو أن الأضواء كلها منصبة على المفاعيل الجانبية لهذه الكارثة الإنسانية، وليس على المغزى الحقيقي، أو الرسائل التي تضمنها هذا العمل الإجرامي الرهيب، بحق 224 مواطنا روسيا بريئا. الأمر الذي بدت معه هذه الحملة وكأنها تسديد للكرة خارج المرمى.
وليس من شك في أن هذا التجاهل شبه التام للطرف الرئيس المستهدف من وراء إسقاط هذه الطائرة، ونعني به روسيا، كان مقصوداً لذاته، حتى لا نقول إن فيه شبهة تواطؤ. إذ تم التغاضي عن المضامين التي ينطوي عليها أول رد فعل من جانب التنظيم المتوحش على العملية الجوية الروسية الجارية على قدم وساق في سورية. كما جرى أيضا حرف البوصلة عن النقاشات المتعلقة بتداعيات انخراط موسكو في حرب تم تبريرها لدرء مخاطر مثل هذه الأعمال الإرهابية.
وأحسب أن إعادة توجيه بوصلة الاهتمام، قليلاً، نحو مركز الحدث الرئيس، الذي يعيد إلى الذاكرة واقعة “لوكربي” الشهيرة، سوف يكون مفيداً لكل الأطراف المخاطبة بجريمة إسقاط الطائرة الروسية، خصوصاً إذا كان الفاعل هو تنظيم “داعش” وفق أرجح التقديرات، وكان الهدف هو تحدي التدخل الروسي، المتعثر أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وليس مصر أساسا، التي ذهبت، ربما، بمحض الصدفة بين أقدام المتزاحمين على الحلبة الشرق أوسطية.
وإذا كان صحيحاً أن سلامة الملاحة الجوية قد وضعت على المحك، مجدداً، بعد إسقاط الطائرة الروسية، بفعل فاعل لم يتوان عن تحمل المسؤولية، فإن من الصحيح أيضاً أن إسقاط هذه الطائرة قد وضع، في المقابل، مستقبل التدخل الروسي في سورية على حجر المحك ذاته، باعتبار أن هذه الضربة الأمنية/ السياسية المعقدة، بدت كقذيفة مدفعية مرتدة، أصابت الكرملين في الخاصرة الطرية، على نحو مبكر وموجع بالضرورة.
وعليه، فان إسقاط هذه الطائرة، في غمرة جهود دبلوماسية/ عسكرية حثيثة، تبذلها موسكو للحد من مضاعفات اقتحامها لعش الزنابير السورية المميتة، يزيد من تعقيدات موقفها المعقد أصلاً، ويلقي عليها تحديات إضافية، بعد أن القت بثقلها لصالح حصان ميت، وصمّت أذنيها عن كل التحذيرات من مغبة الظهور بمظهر من يخوض حرباً ضد الكتلة الإسلامية الكبرى في هذه المنطقة، ومن ثمة استثارتها لأشد النوازع تطرفاً، وعمقها رغبة في تسديد الحسابات التارخية المفتوحة، من القوقاز إلى أفغانستان.
من المرجح تماماً أنّ موسكو، التي مالت أول الأمر نحو فرضية سقوط طائرتها جراء خطأ فني أو عطل ميكانيكي، كانت راغبة في استبعاد العامل البشري من أساسه، كون هذا العامل يمنح عدوها رقم واحد، الذي أتت إلى الشرق الأوسط من أجل محاربته والقضاء عليه، صدقية لا يستحقها في هذه اللحظة الميدانية العصيبة، ويضفي عليه أهمية مضاعفة، لها ما بعدها، إذا ما تم حسم السجال حول هوية فاعل لديه شهية مفرطة للانتقام المروع بلا هوادة.
وفيما بدت موسكو راضية عن إدارة النار الحامية بعيداً عن قرصها، إن لم نقل إنها بدت ممتنة لتجهيل الفاعل والمفعول به حتى هذه اللحظة، فقد بدت القاهرة شديدة الانفعال بتركيز الأضواء على قصورها الأمني في مطار شرم الشيخ، إلى الحد الذي أخرجها عن طورها، وهي تشاهد عشرات آلاف السائحين يغادرون منتجعاتها السياحية الشهيرة، لاسيما بعد أن انضمت روسيا للدول الغربية، وأخذت في ترحيل مواطنيها بالجملة.
وقد تكون أشد مظاهر المرارة التي عقدت حلوق المصريين، جراء الحرج الشديد إزاء اتهامات بدت منسقة مع كل هذا “الطخ” الإعلامي الكثيف على منظومتها الإدارية المتهالكة، ما نشرته إحدى الصحف اليومية المصرية، على عرض ثمانية أعمدة غطت كامل صفحتها الأولى، تحت عنوان: “حتى أنت يا بوتين”؛ تعبيراً عن حسّ القاهرة العميق بالخذلان والاستهداف معا، وسقوط رهانها السريع على تماثل موقف موسكو معها، في إطار التصدي للحملة الغربية عليهما، وذلك بعد أن انحازت موسكو لاعتبارات ذاتية لا يمكن غض البصر عنها، وتركت القاهرة تلعق جراحها الساخنة وحدها.

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى