تكاد أحداث «الربيع العربي» تطوي ست سنوات من عمرها، فيما لا يزال الجدل يحتدم حول ما إذا كان يجدر توصيفها بالكوارث أو أنها ثورات أحبطها التهوّر، وبين هذا وذاك قد يكون الوصف الأنسب لها بأنها «تجارب» … إذا أخذنا بمقولة إن «التجارب هي التسمية التي نطلقها على أخطائنا»!
تفاءل كثيرون بأن تونس أفلتت من تجربة «الربيع» وإن مترنّحة، تعاني مع الإرهاب بعد تراخي قبضة الدولة، وانعكاسات ضرباته المتلاحقة تدميراً للاقتصاد، حتى تكشفت ظواهر أهم، إذ تحوّلت الشكوى من «فساد كبير» قبل الثورة، إلى انتشار لممارسات فساد صغيرة بعدها، إلى جانب صراع نفوذ أسقط نتائج الانتخابات ومعها الغالبية الحاكمة، ما يظهر هشاشة الوضع وينبئ بمسلسل جديد من الاضطرابات.
في غضون ذلك، سقطت ليبيا في دوامة عنف، لم تنفع معها جهود الوسطاء الدوليين وآخرهم الإسباني ليون الذي اصطدم بانسداد آفاق التسوية، فآثر السلامة بالغنيمة، وما تيسّر من تدبير لشؤون البيت الليبي، باتفاق بين أطراف لم تكن متحاربة أصلاً، حيث بدا عسيراً جمع القوى المتحاربة فعلاً. وخلف متاريس الحرب، تحصن لصوص المال العام والتهموا خزينة الدولة الغنية حتى أوقعوها في براثن الإفلاس التام.
عندما أطاحت موجة «الربيع» الأنظمة في تونس ومصر وليبيا في 2011، تمكن القصر الملكي في المغرب من تفادي تجربة مماثلة، بإجراءات راوحت بين تعزيز الأمن وزيادة الإنفاق وصولاً إلى تسليم «الإخوان» الحكومة، ليضعهم بذلك أمام امتحان، حتى إذا أخفقوا يلامون وحدهم. وبذلك أكد القصر مكانته حَكَماً لا خصماً.
لكن تجدد الاحتجاجات في الأيام الأخيرة، على ارتفاع أسعار خدمات أساسية مثل الماء والكهرباء، فتح باب السجال حول المسؤولية عن هذا الإخفاق، فسارعت الحكومة إلى لوم الشركات الفرنسية التي تدير قطاعات المياه والصرف الصحي والكهرباء في طنجة وتطوان إلى جانب العاصمة الرباط وسلا ومدن أخرى، وردت الشركات بتحميل اللوم إلى خطة الحكومة إعادة هيكلة قطاع الكهرباء بتكاليف باهظة على السكان.
وبغض النظر عن الاتهامات المتبادلة في هذا الشأن، فان مما لا شك فيه أن المغرب يشترك مع تونس في وجهة النظر التي تحمل الأوروبيين مسؤولية تجاهل حقيقة الأزمة في البلدين، والتي يكمن حلها في تشجيع مبادرات تولد فرص عمل وتحفيز الاستثمارات لا سيما في الأوساط الريفية، مبادرات كتلك التي تعهد الاتحاد الأوروبي مناقشتها مع الدول الأفريقية في قمة تعقد في مالطا هذا الأسبوع، واعداً بتخصيص نحو 1.8 بليون يورو لمعالجة ما اسماه «الأسباب العميقة» لأزمات القارة. وهي أسباب لم يلتفت الأوروبيون إلى جديتها، إلا تحت ضغط معاناتهم مع كارثة تدفق المهاجرين.
في الجزائر، قصة مختلفة وإن كانت تتساوى خطورة مع ما يجري في الدول المجاورة. وإذا كان الرئيس بوتفليقة نجح في إبقاء بلاده في منأى عن تجربة «الربيع»، فإن التهديد الجدي لم يأته من جرأة مستجدة لدى الإسلاميين في المطالبة بالعودة إلى الساحة السياسية، وهو أمر نجح إلى حد بعيد في كبحه، لكن عينه على تهديد أكبر، مصدره تفشي الفساد في شكل اضطره إلى الذهاب بعيداً في إجراءات «إقصاء» لم ترق لمراكز النفوذ في النظام. ولا شك في أن بوتفليقة يحتاج إلى الذهاب أبعد من ذلك، لوقف تجاوزات تهدد اقتصاد البلاد. وثمة تساؤلات جدية حول قدرته على ذلك، قبل أن تنقلب عليه مراكز النفوذ التي لن تتوانى بدورها عن اتهام الدائرة المحيطة به بالفساد.