نون والقلم

لا مهرب من التسوية

مؤتمر فيينا والانتخابات التركية، يمكن أن يشكّلا بوادر ترتيبات سياسية قادمة في منطقة تعجّ بالصراعات والدّمار، وباتت تحتاج إلى تنازلات وإلى تسويات تعيد الاستقرار لشعوب تنوء تحت وطأة هذه الأزمات منذ عقود ليست بالقصيرة.

مؤتمر فيينا الذي انعقد قبل أيام قليلة لم يستطع أن يتوصل إلى حلّ جذري للأزمة السورية، لكنه وضع الأسس الأولية لعملية سياسية سترعاها الأمم المتحدة. فالبنود التسعة التي جاء بها البيان الختامي، تلبي الشروط الأساسية لأي عملية تصبو إلى تحقيق السلام في بلد يسير نحو الاندثار. أهم بنود بيان فيينا تكمن في الاتفاق على وحدة الأراضي السورية و إبعاد شبح التقسيم، وهو ما يضع حدّاً لأحلام أي مجموعة دينية أو طائفية أو عرقية من أن تحلم بقضم جزء من سوريا، لإقامة كيان منفصل.
هذا البند لا يهم سوريا وحدها، فدول المنطقة المتخوفة من سيناريوهات تقسيم العراق أو سوريا، ستكون مستفيدة من هذه الاتفاقات التي شاركت فيها كبرى دول العالم. المهم في المرحلة القادمة، أنه يوجد «فيتو» تفرضه المصالح المتشابكة على مسألة التقسيم. فربّما هناك مخاوف جدّية من عدم القدرة على إدارة الصراعات فيما لو تفتتت الدول العربية إلى كيانات صغرى ومتناحرة.

الأمر الثاني المهم، في بيان فيينا، هو إعادة الأزمة السورية إلى أصحابها الأصليين، أي إلى الشعب السوري، فالنقطة الثامنة من البيان، تؤكد أن سوريا هي التي تملك وتقود هذه العملية السياسية والشعب السوري هو من يحدد مستقبل سوريا. وهذا الأمر سيساعد كثيراً في توجيه العملية السياسية المستقبلية. فسوريا تضررت كثيراً من التدخل الخارجي، وإعادة المفاوضات إلى أهلها هي خطوة حكيمة. وهنا ستكون الدماء التي أهدرت في السنوات الخمس الماضية، هي الفيصل في بناء سوريا الجديدة، سوريا التي سيشارك فيها جميع السوريين من دون إقصاء ومن دون استثناء، إذ تنص النقطة الثالثة من البيان على أنّ «حقوق كل السوريين يجب حمايتها بصرف النظر عن العرق أو الانتماء الديني».

ركائز الدولة السورية الجديدة تتمثل في الحفاظ على الدولة العلمانية المؤمنة بالديمقراطية، وذلك بعد أن يتم جمع الحكومة السورية مع أطياف المعارضة التي وجب فرزها بحسب ما تقتضيه العملية السياسية الجديدة.
بيان فيينا، يمكن القول إنه مُرضٍ إلى حدّ يمكّن، من وضع اللبنات الأولى، وبالتأكيد فهي الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، في هذه الدولة. لكن تنفيذ هذه المبادئ سيتوقف على مدى تمسك الأطراف الدولية – وهي لاعب رئيسي في الملف السوري- على المضي في جمع الفرقاء السوريين على طاولة المفاوضات.

التوازنات الدولية، هي التي ستتحكم في مسار المفاوضات القادمة حتى وإن أعاد بيان فيينا، أمر المفاوضات لأصحاب الشأن. أطراف المعارضة السورية، ستكون مؤيّدة بشكل قوي من حكومة تركية بقيادة حزب العدالة والتنمية والتي فوّضته الانتخابات المبكرة لقيادة تركيا لفترة قادمة. الوضع السياسي في تركيا سيقدّم دعماً معنوياً لأطياف المعارضة التي تتخذ من أنقرة مقرّاً لها. وصعود حزب أردوغان وبقوّة إلى سدة الحكم، بعد أشهر من التشكيك، سيعطي المعارضة السورية، دفقاً أقوى، فتركيا لن تتخلى عنها والدعم العربي مستمر. أما الحكومة السورية فهي تعوّل على الحل العسكري الذي يعطي نتائج إيجابية إلى حد الآن، خاصة في مقاومة تنظيم «داعش»، ويمنحها الفرصة لاستعادة السيطرة على مناطق كانت خاضعة – قبل التدخل الروسي- لسيطرة فصائل المعارضة. وعليه فإن التقدم في المسار السياسي الجديد، سيكون مرتهناً بتطور الأوضاع على الأرض، وسيخضع لمقاييس الربح والخسارة لكل طرف من أطراف الأزمة السورية، سواء كان طرفاً داخلياً أو خارجياً. وليد المعلم وزير الخارجية السوري قال إن بيان فيينا «مهمّ جداً لبدء عملية سياسية، لكن هل تقبل المعارضة هذه الترتيبات؟ وهل تملك ما يكفي من أدوات القوة لرفض مقررات فيينا؟

الأسابيع القادمة ستكون حاسمة، وأطراف النزاع عليها أن تعي أنه لا بد من تقديم تنازلات، مهما كانت مؤلمة، لأنه لا مهرب في نهاية الأمر من التسوية السياسية. أكثر من مئتي ألف قتيل في خمس سنوات، ونحو 7 ملايين نازح في الداخل السوري وفي دول الجوار، أما المؤسسات الدولية فهي تتكهّن بلجوء خمسة ملايين سوري إلى أوروبا إن استمرّ النزاع. فضلاً عن دمار الاقتصاد وخراب البلاد، وهي خسائر لا يمكن إحصاؤها إلا بعد أن ينجلي غبار حرب داحس والغبراء.
المطلوب الآن هو إعلاء الحكمة وانتهاج العقلانية السياسية، لحل هذه الأزمة الخطرة، فالحرب لا يمكن أن تستمر إلى ما لانهاية، والدول المتربصة بالمنطقة لا تتورع عن الحديث عن أن الشرق الأوسط الذي نعرفه قد انتهى إلى غير رجعة، وهذا يعني أنه سيكون هناك شرق أوسط جديد. لكن يبدو أن العقلاء في العالم قد فهموا أن مثل هذا الشرق الأوسط يكون فيه ل«داعش» موطئ قدم ضمن كيانات طائفية أو عرقية متناحرة، هو حلّ سيقود بالضرورة إلى مواجهة عالمية شاملة. وبوادر هذه الأزمة العالمية، بدأت تظهر من خلال موجات اللاجئين التي يعتبرها البعض «طوفاناً بشرياً» سيغرق أوروبا. ولذلك أسهمت أوروبا في مؤتمر فيينا في تقديم تنازلات من أجل الدفع بعميلة سلام سورية، ربما تكون خطوة نحو حلّ مشكلة اللاجئين. الكرة الآن في ملعب السوريين، حكومة ومعارضة معتدلة مؤمنة بالدولة المدنية وبالدولة العلمانية، وقد فوضتهم القوى العظمى لحل خلافاتهم وإصلاح ذات البين، وإعادة بناء دولتهم على أسس جديدة. قد لا تكون الأسماء مهمة في المرحلة المقبلة. فالمهم ما سيخرج به السوريون من اتفاقات بينية، الأسماء والمناصب هي التي دمّرت سوريا، فيجب ألا تكون مطية لإضاعة فرصة السلام الحالية.

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى