نون والقلم

كي لا نصبح سطراً في موسوعة

عندما يفرّغ الموت من معناه وتألف الشعوب أهوال العنف الذي يتجاوز مشاهد الانهيارات، تصبح الحضارة أيّة حضارة مهما عظمت عاجزة عن الاستجابة، فتسقط في الانحطاط.

وغالباً ما يتمّ هذا الانحطاط نتيجةً لأزمات داخلية تبعث نحو معارك وحروبٍ أهلية قاسية أو نتيجةً لاجتياحات خارجية يولّع الوضع العسكري والقومي بالتطرّف الوحشي الذي يستدعي مخلّفات الثقافة الموروثة من عهود الازدهار الوهمية وحقباتها، فكيف إن تلازمت الاجتياحات والحروب في بقعة العرب كما هو حاصل اليوم؟ قطعاً تنذر الحضارة فعلاً بالانتهاء وتصبح سطراً في موسوعة.
سقطت الشعارات والأحزاب والأفكار والإيديولوجيات فوق الركام بعدما راحت تقدّم نفسها ركائز للنهوض العربي قابلة لأن تعمّر عتيّاً.
سقطت مرة واحدة، وسرّع في سقوطها ليس فوضى «ثورات الربيع العربي» فقط، وما حملته من تشظّيات دينية بل فيما حملته من جرائم حرق الناس وسحلهم تحت الدبابات بما يجعلنا نعتاد الموت الذي ما عاد يهزّ الكثير من الكثيرين منّا.
وتتقاطع تلك المجّانية في القتل والحروب العبثية بفوضى عارمة منذ فلسطين وتتجدّد الأزمات والاجتياحات مع تجدد الأجيال بما يجعلني أنسخ نهائياً فكرة آرنولد توينبي الذي قضى عمره غاطساً في دراسة عشرين حضارة ليطلع بخلاصة مثالية تقول إنّ الإنسانية سوف تصبح واحدة على الأرض.
كلام فلسفي غير صحيح. وفي أوروبا يدرّسون الأجيال عبثية الحربين العالميتين ويجعلونها جزءاً غالياً من الثقافة التي تحدّ أو تهذّب العنف الغرائزي وتنمّي الاستجابات لدى الأجيال بهدف عدم الوقوع في التكرار.
ما يحصل في بلادنا قد يتجاوز بوحشيته قساوة الحربين لو أخذنا في الاعتبار النمو الحضاري والثقافي.
السبب أن عقولاً ساهرة لتقدمنا قبائل متناحرة لا شعوباً اكتسى تاريخها شيئاً من حضارات المئة سنة الأخيرة. وكأنّنا نسينا المغول والبربر ومحونا التاريخ لنرسم الفراغ.
قد أرى حبلاً يشابه حبل الغسيل فوق الركام العربي نعلّق عليه بعض العناوين الجريئة أو الأفكار التنويرية المتجددة ، حيث تمثل أمامنا نهايات العروبة فيقابلها المتجدّد مع الإسلام الملاذ الوحيد المرغوب الذي يحقّق مستلزمات الإيمان والعقائد الدينية، وهو ما استعاد بسرعة قياسية تعقيدات ومصائب العلاقات التاريخية الدينية والسياسية بين المسلمين أنفسهم ، كما بينهم وبين الغرب والشرق.
لا يفاجئني هذا المحرق الحضاري لأنّ تحويل الصراع كلّه إلى حقول القيم المقدّسة والأحقيات الدينية بدا أكثر مرارة من الصراعات حول الممتلكات والآثارات والثروات العربيّة.
قد يغضب المؤمن أيّ مؤمن ويقاتل ويدمّر إذ تنتهك حرمات مقدساته بنظرة بسيطة ، لكنّه يفترق سنين ضوئية عن سلوك الآخر الوطني الذي يثور عندما تهان كرامته الوطنية لا الشخصية أو يتمّ الاعتداء اللفظي على علمه أو دولته أو تاريخه.
وهنا سؤال: لماذا تلك المفارقة؟
لثلاثة أسباب من بين أسباب أخرى، أوّلها أنّ «النهايات» في تفسيراتها توصل المجتمعات المتدينة مباشرةً بالحركات الألفية Millénarismeوأهوالها التي تريح الناس في أزمنة التغيير عبر ما حقّقته الأديان أو ما سبقها ويستمرّ معها، خصوصاً أنّ البشرية اعتادت أن تضع يدها على قلبها كلّما اقتربت الأزمنة من لحظة عبور المئة أو ألف سنة أي لحظة عبور الأصفار التي غالباً ما تكون مصحوبة بالأزمات والصراعات والحروب.

السبب الثاني وهو الأهمّ، هو أنّ مصطلح «النهايات» عرف الضوء ربّما كنوعٍ من الإقرار البشري العام بفشل الفكر البشري في حل المعضلات والأسرار وإيجاد أجوبة مقنعة عن الأسئلة الصعبة التي تجيب على المسائل الكبرى، ولكنّ هذا الجزء المظلم والحزين من الكلمة وجد ضالته بإهمال الافتكار بمعنى إعمال العقل والغوص في الأديان بانتظار الخلاص الوشيك الذي يعمّ الأرض، واستعادة الفلسفة الرواقية بتجلياتها السلبية التي قالت إن العالم ينتهي ب «بنار تلتهمه» وما يتبقّى من التاريخ لا يتجاوز تدوين ما كان حاضراً أو متبقيّاً بعد طي صفحاته.
وهذا ما نجده عند الهنود عندما يظهر«سيفا» مطهّراً العالم من أدرانه عبر ما أسمي «السنوات الكبرى». ونجده في فكرة «المخلص» في إيران و«ميترا» منظم الكون ومنقذه الذي ليس هو سوى «الافشتا الإيرانية» القديمة الذي يعود يوماً فيضرم ناراً تلتهم الكون.
ونجده أيضاً مع بوذا «مخلص العالم»، إذ يتّخذ سحنة البشر عندما يعمّ الجور… وللمصطلح جذوره الفكرية الضاربة في العهد القديم حيث الاعتقاد بمجيء المخلص المنتظر في التوراة في آخر الأزمنة بعد القيامة.
ومثله أيضاً «ماني» الذي ادّعى أنّه المخلص الثاني الحامل ل «ديانة الخلاص». وتلك أفكار ومعتقدات تعرّي الموت من رهبته أيضاً.

أمّا السبب الثالث فلربّما يكمن في أنّ السياسة والاستراتيجيات الدولية العلمية المعاصرة التي حملتها «فلسفة» التواصل ومشتقاتها ووسائلها الاتصالية المتفجّرة على مستوى الكرة الأرضية بدت نوعاً من التوحيد المشاعي للبشر كونها ظهرت عبر تقنيات ملوّنة مغرية ولينة وغير مفروضة أو مستبدة لشعوب الأرض ، فجذبتها وتقودها مثل القطعان بشكلٍ ناعمٍ نحو حتميّة التغيير.

إنّها ظاهرة ثقافية إنسانية هائلة دخلت من الباب الحضاري المعاصر الكبير الذي تتزاحم عبره أنساق القيم القديمة والجديدة التي جاءت طاغية تؤسّس لأفكار حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات والعدالة ونسف الأفكار الشمولية مهما كانت جذورها ضاربةً في الأعماق.

كان من الطبيعي والمنتظر أن تبرز النتوءات الثقافية والتلال بين الشعوب.
باختصار، بدت مشاعية الفكر الإيديولوجي المنافسة والقوية الوحيدة في الساحة العالمية بوجه الفكر والأنظمة الشمولية والأديان والمذاهب التي يسهل إعادة تثوير الناس وتأطيرهم من خلالها.
نعم..
أصبحت فكرة الموت العنيف، ومهما كان وقعها على الشعوب، مسائل مألوفة حسمها الغرب من وجدانه ورسّختها الحماسة الشعبية للعقائد المذهبية في الشرق، لكن محصلاتها على المستوى الحضاري والتاريخي للشعوب والأوطان تحمل لا التحولات الكبرى بل كوارث الفناء أو الإفناء في بلاد العرب.
لا يمكن لها أن تولّد قطيعة مطلوبة نهائية مع الماضي، بل على العكس جاءت تفرض ردود فعل التشبّث بالماضي بعد نبشه وغسله واستعماله ثقافة قتالية أبدية فيما بين أهل الداخل العربي مصحوباً بتحديات ومناغشات وتحالفات وانقسامات بين الشرق والغرب على السواء، يمدون لنا يد المساعدة بصفوة العلم الخبيث ، أعني الأسلحة المتداخلة بين داخل وخارج، مع الاستمرار في توليفات معقّدة بين الماضي والمعاصرة والتجديد والحداثة ، مرفوضة من الآخر البعيد ومشكوك بصوابها من الأجيال الجديدة في الداخل.
ويقتضي الداخل إقفال أهل الداخل الأبواب والتفاهم مباشرة بلغة الضاد كشحاً للانحطاط الحضاري الثاني.

 

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى