استدعاء الدور المصري
يصعب الادعاء بأن مصر استعادت دورها على نحو يؤثر بعمق في إعادة التوازن إلى الإقليم. خلل التوازن أفضى إلى ما وصل إليه العالم العربي من تدهور مرعب.
هناك فارق جوهري بين ترميم السياسة الخارجية وبناء سياسة جديدة. الأول ضرورة التقاط أنفاس وسد ثغرات هددت تحولات (٣٠) يونيو. والثاني موضوع رؤية وصراع على القوة والنفوذ والمستقبل.
في ترميم ما تهدم انفتحت السياسة المصرية على إفريقيا بصورة ساعدت على عودتها بسرعة نسبية إلى أنشطة الاتحاد الإفريقي بعدما تعرضت للتجميد. غير أن ذلك لا يعني فتح صفحة جديدة مع الاتحاد الذي أسسته ومع القارة التي قادت حركة تحريرها مطلع الستينات.
بحسب دبلوماسيين تولوا الملف الإفريقي في الخارجية المصرية فإن الأقوال أكثر من الأفعال. بمعنى آخر لا توجد حتى الآن سياسة إفريقية شبه متماسكة تنفتح على شواغل القارة وقضاياها ولا تلخصها في أزمة سد النهضة مع إثيوبيا.
وفي ترميم ما تهدم انفتحت على مراكز دولية فاعلة ومؤثرة مثل روسيا والصين والهند دون أن تؤسس استراتيجية جديدة ورؤية مختلفة.
لا يصح أن تكون هناك قطيعة مع الولايات المتحدة غير أن الحديث المتكرر عن حوارات استراتيجية معها يعني أنه ليس هناك أدنى مراجعة حقيقية لملف العلاقات الخارجية يتجاوز متطلبات الترميم.
بنفس المنطق انفتحت السياسة المصرية- بقدر ما تستطيع- على عالمها العربي بأزماته وبراكينه ومخاوفه وآماله أن تعود مجددا للعب أدوارها…غير أن هذه مسألة ليست سهلة.
فالعالم العربي تغير بقدر ما تغيرت مصر.
في عام (1979) انسحبت من الصراع العربي- «الإسرائيلي» بتوقيع معاهدة السلام.
بنفس العام دخلت إيران إلى الإقليم بقوة دفع ثورتها الإسلامية وخطابها الجديد في القضية الفلسطينية..كانت تلك اللحظة بداية الخلل الفادح في توازنات المنطقة.
وفي عام (2003) تم احتلال بغداد وانكشف العالم العربي بالكامل عند بوابته الشرقية. حدث الانكسار الثاني، واتسع الفراغ الاستراتيجي في الإقليم.
التاريخ لا يعرف الفراغ..تقدمت إيران وتركيا لملء الفراغ.
إيران بقوة مشروعها الإقليمي، الذي تمدد بأكثر من طاقتها، وتركيا بقوة نموذجها الاقتصادي والسياسي قبل أن يتبدد إلهامه.
استدعاء الدور المصري يعني بالضبط البحث عن توازن يفتقده الإقليم بقسوة.. والحوادث العاصفة تستدعي حضوراً مصرياً على مسارحه في لحظة تقرير مصائر.
هناك طبخات محتملة لتسويات وصفقات كبرى، تبدأ من سوريا لكنها لا تتوقف عندها.
تفكيك العقدة السورية قد يفضي إلى حلحلة أزمات مستعصية أخرى من العراق الذي يعاني صراعاته المذهبية وحروبه مع «داعش»، إلى اليمن الذي يبحث عن تسوية سياسية وفق القرار الأممي ومخرجات حواره الوطني المعطلة، إلى لبنان الذي تكاد مؤسساته تتقوض داخلا إلى المجهول.
في كل الملفات الدور المصري مطلوب ومستدعى.
وإذا كان هنالك من حوار عربي إيراني محتمل، فالدور المصري لا يمكن الاستغناء عنه.. إيران تطلب الحوار الدبلوماسي مع مصر وتُلح عليه.. هذه معلومات مؤكدة، ومصر محامٍ مؤتمن عن الخليج.. وهذه حقيقة ثابتة.
المعضلة الحقيقية أن الأطراف العربية لا تتوافق بوضوح على استراتيجية واحدة في إدارة الأزمة السورية.. بعضها أقرب إلى أنقرة وبعضها الآخر أقرب إلى طهران.
الروس يطلبون حضوراً مصرياً، والأمريكيون لا يتحمسون ولا يعارضون، وتركيا لا تملك القدرة على التحفظ، وإيران تراها فرصة للانفتاح الدبلوماسي العلني مع الدولة العربية الأكبر.
وسط الحسابات المتناقضة تغيب أي رؤية عربية مشتركة على قدر من الوضوح..
واللقاءات الودية لا تغني عن السياسات الصلبة.
غياب السياسات الصلبة أزمة حقيقية تعترض أي دور مصري محتمل.
لا سياسات مؤثرة بلا رؤية للأمن القومي والمصالح الاستراتيجية العليا.. وفي بلد عريق مثل مصر لا أحد يخترع نظريات الأمن القومي ولا مصادر التهديد ولا دوائر الحركة.
قد تنضج الأفكار من حقبة إلى أخرى، غير أنها لا تنشأ من عدم ولا تؤسس على فراغ.
مشكلة مصر أنها امتلكت في الستينات مشروعاً قومياً للتغيير انقلبت عليه العقود التالية ومشت فوقه خطوطه الرئيسية بممحاة غليظة. لا شيء من التراكم ولا شيء بقي على حاله في مجمل السياسات.جرى الانقلاب على قضية العروبة والتنكر لقضايا التحرير الوطني ولأي معنى لموقف مستقل.. باتت التبعية الاستراتيجية عنواناً أولاً للسياسة المصرية التي فقدت احترامها في محيطها وقارتها وعالمها الثالث، وبات الانكفاء على الذات والانعزال عن العالم العربي وصداعه عنواناً ثانياً.
السياسات الجديدة أفضت إلى التهميش شبه الكامل.
بقدر ما تتحرر الدبلوماسية المصرية من أي قيود تكبل حركتها فإنها تكتسب احترامها.
بلا مراجعة للتاريخ لا أمل في المستقبل.
وبلا تحرر من القيود لا أدوار حقيقية تؤثر وتغير في معادلات الإقليم.
للتاريخ موارده في العلاقات الإقليمية والدولية لكن الدول لا تعرف غير الحقائق التي على الأرض والمصالح التي تراها، والتجارب المشتركة القديمة تضفي شيئاً من الدفء على العلاقات، تفتح الأبواب وتساعد على التفاهمات.
من الضروري دائما تذكر أن العالم قد تغير، وأن مصر في أوضاعها الجديدة ليست مصر الستينات.. والأهم من ذلك كله أن تكون هناك رؤية واحدة تدمج ما هو داخلي ضاغط مع ما هو إقليمي ملح.
بقدر ما يكون الداخل مستقراً في أمنه ومطمئناً على اقتصاده فإن بوسعه أن يتقدم بثقة إلى محيطه. ورغم أي أزمات داخلية صعبة فإن المصير المصري يتحدد في إقليمه.
يستحيل لعب أدوار إقليمية كبرى من دون قاعدة انطلاق في الداخل تتوافر فيها عناصر المناعة من احترام للقواعد الديمقراطية وعافية في الاقتصاد والتزام بالعدالة الاجتماعية ودحر للإرهاب.
في العلاقة بين الداخلي والإقليمي تتبدى مشكلة الانشغال السياسي والإعلامي بكل ما هو محلي على حساب كل ما هو خارجي.
الاستغراق في المحلية معضلة.. وتآكل المعارف بالعالم العربي معضلة أخرى.
اختفت تقريباً طبقة الخبراء المتخصصين في الشؤون العربية الذين يعرفون خفايا ما يجري في الكواليس وعلى اتصال مع صناع الأحداث.
صفحات الشؤون العربية بالصحف المصرية يكاد ينقرض تأثيرها، والفضائيات لا تولي أي عناية واجبة.
على النحو ذاته فإن معرفة العالم تتضاءل بصورة مخيفة، والانشغال بها يبدو أمراً مقصوراً على دائرة ضيقة من الخبراء والباحثين.
تلك المأساة تؤثر بالسلب في أي احتمال لاستعادة عافية الدور في أي مدى منظور… لا دور بلا معارف ورؤية وانشغال.
في أي حساب الانكفاء جهل والانعزال مستحيل وتعطيل الدور جريمة.