وزير الخارجية الأمريكي جون كيري تعلم الدرس جيداً منذ فشل مبادرته الشهيرة لتفعيل حل الدولتين أمام تشدد رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو في التمسك بسياسة التوسع الاستيطاني والتهويدي في القدس والضفة الغربية المحتلتين. فمنذ ذلك الحين، هو وإدارته، يتجنبان ما يُعرف، وفقاً لمفرداتهم، ب«مستنقع الصراع “الإسرائيلي”- الفلسطيني». وكم كانت الإدارة الأمريكية سعيدة وهي ترى إقليم الشرق الأوسط آخذاً في الانحدار إلى مستنقع أعمق وهو «الحرب الإرهابية» التي جعلت من «الإرهاب التكفيري» عدواً بديلاً ل«إسرائيل» عند معظم الدول العربية، ومنافساً حتى ل«العدو الإيراني» الذي يسعى نتنياهو إلى فرضه كعدو بديل منذ إطلاق وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس مصطلح «الشرق الأوسط الجديد» في أوج الحرب «الإسرائيلية» على لبنان صيف 2006.
ظهور العداوات البديلة والأعداء الجدد أعفى كيري، كما أعفى الإدارة الأمريكية ورئيسها باراك أوباما، من عبء التورط في الصراع «الإسرائيلي» – الفلسطيني الذي يسبب إرباكات لعلاقات واشنطن مع الدول العربية، ويسبب توترات في علاقات الإدارة الأمريكية مع الكونغرس واللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة. فقد استنفد الملف النووي الإيراني قدراً من الوقت كان يمكن أن يكون ضاغطاً على الإدارة الأمريكية بسبب فشلها في تفعيل خيار حل الدولتين، كما استنزفت الحرب ضد «داعش» والإرهاب التكفيري الكثير من الجهود والموارد، وشغلت الرأي العام بعيداً عن ضغوط السياسات العدوانية «الإسرائيلية» في الأراضي العربية المحتلة في فلسطين، وتصور كيري أن الأعباء أخذت تتراجع في ظل تراجع أولوية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى الدول العربية أمام الخطرين العاجلين الأَولى بالاهتمام: خطر الإرهاب والخطر الإيراني، لكن شباب فلسطين أفسدوا على كيري وإدارة أوباما، كل التوقعات ونجحوا في أن يعيدوا فرض أولوية القضية الفلسطينية على الجميع.
بهذا المعنى نستطيع أن ندرك «صدمة كيري» في توقعاته الخاطئة بأن الملف الفلسطيني قد دخل «ثلاجة التاريخ» أمام المخاطر الجديدة التي تواجه دول المنطقة. فقد اضطر كيري أمام إدراكه الجديد للمأزق «الإسرائيلي» لأن يعود إلى المنطقة من أجل التهدئة، وبالتحديد من أجل إعادة إدخال القضية الفلسطينية مجدداً إلى «ثلاجة التاريخ».
فزيارته الأخيرة الأسبوع الفائت هي زيارة اضطرارية تماماً وخارج كل حسابات أجندة الأولويات الأمريكية، خاصة ما تواجهه من تعقيدات الأزمة السورية.
جاء كيري ليزور الكيان الصهيوني والأردن ورام الله كي ينزع فتيل اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة تلوح مؤشراتها في أفق الصراع الأساسي بالمنطقة، وحرص قبيل مجيئه على تأكيد وقوفه إلى جانب «إسرائيل» محملاً الفلسطينيين مسؤولية التصعيد الأمني في الأراضي المحتلة. فقد كشفت تصريحات كيري التي نقلتها القناة العاشرة «الإسرائيلية» (18-10-2015) حقيقة التوجهات الأمريكية لاحتواء الاحتجاجات الفلسطينية عبر تحميل الفلسطينيين مسؤولية التصعيد، حيث خاطب نتنياهو بقوله «إن «للإسرائيليين» الحق في الدفاع عن أنفسهم ضد العنف في البلدة القديمة، وفي القدس وفي كل مكان، ويجب على الفلسطينيين وقف التحريض، وعلى رئيس السلطة الفلسطينية (محمود عباس) إدانة العنف بصوت عالٍ وواضح».
هكذا، الفلسطينيون دائماً متهمون، وهكذا «إسرائيل» دائماً ضحية العنف إن لم يكن «الإرهاب» الفلسطيني، وأن ل«إسرائيل» الحق في الدفاع عن النفس في كل مكان، أما أن يعترف ولو لمرة واحدة، بأن «إسرائيل» دولة احتلال ومغتصبة للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، أو أن يعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والحصول على استقلاله الوطني، وأنه في سبيل الحصول على حقوقه المشروعة له أن يدافع عن نفسه بكل الوسائل، وأن يخوض حرب تحرير مشروعة، فهذه كلها أمور خارج القاموس الأمريكي، وخارج العقل الأمريكي، بل والضمير الأمريكي الذي لم ينشأ على احترام حقوق الشعوب المضطهدة ودعم حركات التحرر الوطنية.
لذلك فإن لقاءات كيري مع كل من نتنياهو والملك الأردني ورئيس السلطة الفلسطينية، تركزت على مسألة واحدة محددة هي وضع آلية للتهدئة بخصوص المسجد الأقصى، انطلاقاً من إدراك خاطئ بأن الاحتجاجات الفلسطينية الحالية هي احتجاجات على الانتهاكات «الإسرائيلية» في المسجد الأقصى فقط، وليست لها علاقة البتة بسقوط مشروع أوسلو وسلامه الكاذب عند جيل جديد من الشباب الفلسطيني بات واعياً بأن كل حديث عن سلام مع الكيان الصهيوني هو حديث كاذب، وأن ما سُميت ب«عملية السلام» لم تستهدف أبداً تحقيق سلام عادل للشعب الفلسطيني، بقدر ما استهدفت نزع روح الصمود والمقاومة عند الشعب الفلسطيني وغرس الاستسلام بديلاً عنهما، وتمكين الكيان الصهيوني من فرض «سلام الأمر الواقع» الذي يحقق كل متطلبات الأمن «الإسرائيلي»، وكل ما يحقق النصر للمشروع الصهيوني وتمدده إلى خارج فلسطين في الجوار العربي، ليلتقي مع المشروع الأمريكي لإعادة ترسيم الخرائط السياسية، وإعادة تقسيم وتجزئة الدول العربية وتدمير الكيانات والقوى العربية الكبرى، كي يتسنى للكيان الصهيوني أن يسيطر ويتسيّد ويفرض نفسه كقوة إقليمية كبرى مهيمنة على نحو ما كان يأمل ديفيد بن غوريون الرئيس الأسبق للحكومة «الإسرائيلية»، الذي سبق أن أكد أن بقاء «إسرائيل» لن يتحقق بما تمتلكه من قنابل ذرية وما لديها من قدرات عسكرية متفوقة فقط، ولكنه يتحقق بالأساس بتفكيك وتدمير ثلاث دول عربية هي بالتحديد: مصر والعراق وسوريا.
لذلك كان منطقياً أن تتوافق رؤية كيري مع سقف المطالب «الإسرائيلية» المصرة على بسط السيطرة «الإسرائيلية» الكاملة والوحيدة على المسجد الأقصى وإبعاد الفلسطينيين عنه، وعدم التطرق من قريب أو من بعيد إلى مشروع حل الدولتين ووقف الاستيطان «الإسرائيلي»، فهو، أي كيري، يرى حسب تفسيرات لصحيفة «هآرتس» أن حل التهدئة الذي جاء من أجله يكمن في «توضيح التفاهمات حول الأقصى بين نتنياهو وملك الأردن كما اتفق عليها الجانبان في أكتوبر/تشرين الثاني من عام 2014»، أي العودة إلى ما بات يُعرف ب«اتفاق الوضع القائم»، بشرط أن تتم ترقية التفاهمات «الإسرائيلية» والأردنية تلك إلى «تفاهمات مكتوبة» مع جهاز متفق عليه بين الجانبين يوكل إليه حل القضايا الخلافية والشكاوى والحؤول دون تطورها إلى تصعيد في الأقصى. هذه التفاهمات يراها نتنياهو محكومة بموقف «إسرائيلي» محدد يرى أنه «ليست هناك أي نية لدى الحكومة «الإسرائيلية» لتغيير الوضع القائم في القدس» بمعنى أن «إسرائيل» هي «الجهة الوحيدة» التي «تحمي المسجد الأقصى وغيره من المقدسات الإسلامية وليس الأردن».
ولمزيد من التوضيح قال نتنياهو أنه «إذا أرادت الأسرة الدولية حقاً وقف العنف وسفك الدماء، فإنني أؤمن بأن عليها أن تعلن أن «إسرائيل» «تحافظ على الوضع القائم في الحرم القدسي، وأن على الأسرة الدولية أن تدعم حق» «إسرائيل» في الدفاع عن النفس، وأن تحمل محمود عباس مسؤولية «كلماته الخطرة».
وفي لقاء له مع المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل في برلين قال أيضاً «إذا أردنا أن يحل السلام، علينا أن نوقف الإرهاب، ولوقف الإرهاب علينا أن نوقف التحريض». والمعنى بالتحريض هنا هو الرئيس الفلسطيني، ولذلك حرص كيري عقب لقائه مع “أبو مازن” على أن يردد اتهامات نتنياهو للرئيس الفلسطيني حيث طالب كيري “أبو مازن” بوقف ما أسماه “التحريض” بشكل فوري، «ومنع وصول الشبان الفلسطينيين إلى نقاط التماس مع الجيش» «الإسرائيلي»».
كيري شاهد كغيره مشاهد الخزي والعار لجنود الاحتلال «الإسرائيلي» أمام الشباب الفلسطيني الثائر بعد أن امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بالسخرية من الصور التي انتشرت لجنود الاحتلال وهم يفرون ذعراً ورعباً أمام منفذ عملية إطلاق النار في بئر السبع، لذلك هو حريص على منع أي اقتراب بين الشباب الثائر وجنود الاحتلال لأن النتيجة واضحة، بل وفاضحة للجيش الذي لا يقهر، وهي نتيجة دامغة تؤكد الواقع، كما هو وليس كما يريده الأمريكيون و«الإسرائيليون»، واقع أن الشعب الفلسطيني هو صاحب الأرض وأنه يدافع عنها، أما جنود الاحتلال فهم جنود الباطل الذي لا يعرف حقاً، وهي الحقيقة التي يريد كيري أن يطمسها بزيارته الاضطرارية لفلسطين المحتلة، زيارة الإنقاذ للسمعة «الإسرائيلية» المتهاوية.