نون والقلم

صبحة بغورة تكتب: قيمة الفنون الجميلة

المتفق عليه أن الفنون الجميلة هي منار العقل ومصباح النفس والباعثة على الاطمئنان إلى الصفاء الروحي، وهي الصحيفة النقية الصافية في حياة الإنسان المتطلع إلى المثل العليا. 

يخطئ من ينبري عند البحث والدراسة عن بدايات تأسيس الحركة التشكيلية أن يجرؤ على استبعاد جيل الروّاد الأوائل صنّاع الفن الحديث الذين فتحوا المجال أمام اسهامات مؤسسات رسمية ونقاد لمواكبة إبداعاتهم الفنية ونشرها، إن تعظيم جيل الروّاد هو اعتراف بجميل جهودهم وتقدير عميق لفضل تحملهم عناء المبادرة، إنه تعظيم تفرضه مبررات واقعية تسعى كل الدول من أجل ترسيخ تقاليده والاحتفاء به لبعث مشاعر الاعتزاز. 

ولضمان تنميته ووجوده في إطار الوعي به، وإثراء الحركة الفنية بالقراءات والتحاليل لتأريخ الفن التشكيلي في مختلف الدول فتتوارثه الأجيال، لقد كانت جهودهم محطة مفصلية لنقل الشعوب إلى زمن جديد من رقة الإحساس ورقي التفكير وارتقاء الإبداع، من خلال البراعة في رسم لوحات خالدة، ناطقة عن سحر البيئة ومدى أصالتها وثرائها البيئي المميز، هي رسومات للحب وللوطن وللمرأة تتحدث فيها الرموز لغة تشكيلية مليئة بالإيحاءات الرمزية التي تحمل الأبصار إلى حركية تلتقي فيها الأشكال بسحر الألوان فيترجمها كل ناظر إليها على طريقته إذ هناك من يستعمل الألوان لتفريغ الهم الاجتماعي.  

لقد كان الفضل السبق التاريخي في هذا المجال أثره في تنمية الحس الجمالي ونشره للارتقاء بالذوق الفني، إنه فضل يضع كل من ينكره في إطار التطاول القميء والنكران القبيح لرموز أسست بعرقها ودمها وروحها الحركة التشكيلية الرائدة ونشرت الثقافة الفنية وساهمت في إنشاء أقسام الفنون الجميلة في المعاهد والجامعات وأثرت المكتبات بالكتب المتخصصة واستقبلت كثير ممن هم اليوم يجحدون!!  

قيمة الفنون الجميلة تنبع من ذاتها، إنها البحث عن الطريق الجمالي لإيصال المعلومة للمجتمع، لذلك فهي تنشأ بطابع محلي عفوي، صافي، معبرة بصدق عن واقع حي وعيش قائم وحياة تدب في الأرجاء.  

وروح الفنان الموهوب يعكسها حجم الإبداع المستغرق في عمله الفني صدقا ووحيا وإلهاما، وقد نعجب للشخصية القوية المؤثرة للفنان ذو المزاج الأكثر حساسية، المتمتع بدراسة أكاديمية جادة للطبيعة تخلق لديه ذلك الميل الفطري للبحث عن صيغة جديدة لموروثاته الفكرية وكلما كان الفنان منفتحا على حقول معرفية أخرى اتسع أفق تجربته الفنية لذلك فهو يأبى الجمود في رؤيته لأنه يجعله لا يأبه بتغير الواقع من حوله. 

ولكن هذا الجمود في حد ذاته قد يعكس أيضا رغبة أكيدة وتصميم الواثق على الاستمرار في تكرار ظاهر العالم القديم في نوع من الحنين الدائم إلى زمن ما. 

والعمل الفني الصحيح لابد أن يكون له جانب تاريخي واجتماعي وإنساني، والأمم المصابة بقصور في حركتها التشكيلية تعاني من الأنيميا الفنية ومع ذلك فعندما تريد الخوض في مجال لا تعرفه بل وتهدف إلى تشتيته وتغييره فإنها تعرض نفسها للانتحار الفني لأنها تريد القفز نحو المجهول حيث لا يوجد امتداد لها فيه. 

إن من ينبري لتسويف ماضي الروّاد يريد أن يبادر بالمقاومة الفكرية لظاهرة التعمق في الحركة الإبداعية التي فاته أن يرافقها فعمد إلى أن يقوم بتقليص أدوار صناع الفن الحديث ومساحات حركاتهم ومجال تأثير إبداعاتهم، أنها محاولة بعيدة كل البعد عن إي ادعاء بتفحص شتى التعبيرات الفنية التي يعبر بها الوعي عن نفسه ويشتق منها السلوك، بل تخفي سوء نية وقصور تفكير وعقدة نقص بعيدة عن الغرض الحضاري التفاعلي لحسن تصور المعاني ولاستخراج أجمل ما في الأعمال الفنية من مشاعر وتلمس أنبل ما تتضمنه من مواقف. 

الفنون الجميلة أرقى ينابيع النهر الإبداعي، إنها فضاء راقي متعدد الألوان بين حالات الفرح والحزن، إنها ترسم صورة المشاعر وتلونها. والتاريخ يشكل مادة هامة بالنسبة لأي فنان ولكل مبدع، والفن يغرف موضوعاته من ينبوع التاريخ ويرتوي من الواقع المعاش، والفنان ليس مؤرخا مكلفا بتوثيق الحقيقة ولكنه يستعمل الحقيقة التاريخية كوسيلة للتعبير عن أفكاره وآرائه وتصوراته، والفنان حر في نظرته للتاريخ ومن حقه أن يفسر الحوادث كما يشاء بما يخدم رؤيته وغايته الإبداعية، على أن الإيمان بحرية المبدع لا تعفيه من تحمل المسؤولية تجاه فنه لأنها تعني الالتزام بقيم الحق والخير والجمال، وهذه هي القيمة الحقيقة للفنون الجميلة.  

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا 

 

    t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر  لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى