إن الجمهورية الخامسة في فرنسا تفقد تدريجيا تفردها وتضطر إلى تعلم فن بناء التحالفات، تماما مثل أغلب الديمقراطيات البرلمانية الأوروبية.
ومن عجيب المفارقات أن ماكرون هو المسؤول عن خلق هذا الوضع. فقد انشق عن الحزب الاشتراكي في عام 2016 وأطلق حركة وسطية جديدة (تسمى الآن النهضة).
وقد أدى هذا إلى تحويل نظام الحزب الثنائي القطب التقليدي، وتدمير حزب الجمهوريين من يمين الوسط، وخلق مساحة أكبر على أقصى اليمين لحزب مارين لوبان للنمو – وهو ما فعله بوضوح في هذه الانتخابات، حيث زاد عدد نوابه من 89 إلى 143. ولا تزال تطلعات لوبان للحصول على فرصة ثالثة للرئاسة في عام 2027 تسير على المسار الصحيح.
الجبهة الشعبية الجديدة عبارة عن تحالف انتخابي واسع وهش يضم أربعة أحزاب ليس لها زعيم متفق عليه ولا برنامج مشترك. وسوف تكافح الجبهة للعمل مع ماكرون.
ولكن هناك أمر واحد مؤكد. وهو أن الحكومة الجديدة سوف تضطر إلى الاستمرار لمدة 12 شهراً على الأقل، لأن الدستور يمنع الدعوة إلى انتخابات برلمانية أخرى في غضون عام. فهل ستكون حكومة مؤقتة من التكنوقراط مثل تلك التي نراها بانتظام في إيطاليا؟ أم أنها سوف تشهد فترة طويلة من الشلل كما حدث في هولندا أو بلجيكا أو أيرلندا الشمالية؟
على رقعة الشطرنج الفرنسية، يمكننا أن نرى مقامرة إيمانويل ماكرون الصادمة بحل البرلمان في أعقاب فوز اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية، والتي فشلت بشكل مأساوي.
وشبه كثيرون دعوته لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة بقرار ديفيد كاميرون في عام 2016 بالدعوة المتهور إلى إجراء استفتاء على عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، على افتراض أن البقاء سيفوز، فقط لتدشين خروج بريطانيا.
وأدى التهديد بتشكيل حكومة يمينية متطرفة إلى تحريك «جبهة جمهورية» لمنع التجمع الوطني من الحصول على الأغلبية.
ولكن بالنسبة للمتشائمين، حتى لو نجح هذا في إبقاء حزب التجمع الوطني خارج السلطة، فإن حقيقة أن أحزابا أخرى «تجمعت» لمنع ذلك والفوضى التي ستنجم عن البرلمان المنقسم لن تؤدي إلا إلى تعزيز محاولة مارين لوبان للوصول إلى الإليزيه في عام 2027.
هناك قراءتان محتملتان للانتخابات الفرنسية وتداعياتها على بقية أوروبا. القراءة المتشائمة تشبه حكاية الضفدع المسلوق الذي يموت دون أن يدري بينما يسخن الماء تدريجيا. هي أن اليمين المتطرف يتعزز بعد كل انتخابات، حيث يتم تطبيعه في النظام السياسي (وخاصة من خلال استعداد يمين الوسط للعمل معه) مع الاحتفاظ بطابعه «المناهض للنظام». إن نجاح التيار السائد في منعه من الوصول إلى السلطة هو على وجه التحديد ما يمكّن اليمين المتطرف من البقاء.
وعلى المستوى الأوروبي، نجح اليمين المتطرف في تحقيق اختراقات في التاسع من يونيو ومن المتوقع أن يزداد وزنه مع تشكيل فيكتور أوربان لحزب «وطنيون من أجل أوروبا»، وهو التجمع اليميني المتطرف الثالث في برلمان بروكسل.
وهناك عدد متزايد، وإن كان لا يزال أقلية، من الحكومات المتشككة في أوروبا في مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي الذي يتولى التشريع، بما في ذلك إيطاليا والمجر وهولندا وسلوفاكيا، ومن المحتمل أن تتبعها النمسا في وقت لاحق من العام. وعلى هذا فإن درجة الحرارة ترتفع تدريجيا، وفي نهاية المطاف سوف يموت الضفدع الديمقراطي الليبرالي المؤيد لأوروبا.
إن قراءة أكثر تفاؤلاً يمكن تلخيصها على النحو التالي: «احتفظ بالهدوء واستمر في العمل». لقد تبين أن ماكرون أقرب إلى بيدرو سانشيز منه إلى ديفيد كاميرون. فقد نجح رئيس الوزراء الإسباني في تشكيل ائتلاف متنوع بهدف مشترك يتمثل في إبعاد أقصى اليمين عن السلطة ــ على النقيض من يمين الوسط في إيطاليا وهولندا، الذي أبدى استعداده للعمل مع أقصى اليمين.
ومن المدهش أن مئات المرشحين الذين احتلوا المركز الثالث انسحبوا من السباق الثلاثي لتجنب تقسيم الأصوات المناهضة للوبان. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن الناخبين حذوا حذوهم. فقد استجاب الناخبون الفرنسيون للدعوة إلى التصويت للجبهة الجمهورية حتى ولو كان هذا يعني مخالفة معتقداتهم السياسية.
لقد صوت الملايين من الليبراليين لصالح اليساريين، والعكس صحيح، وقد توحدت هذه المجموعة من الناس على أساس قناعة راسخة بأن الجمهورية الفرنسية وقيمها التي ترسخت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت في خطر مميت. ولا يزال التمسك بهذه القيم يتردد صداه بين أغلب المواطنين.
لا يزال التهديد الذي يشكله اليمين المتطرف للديمقراطية الليبرالية والتكامل الأوروبي حقيقيا، ومعه دعم الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، والعمل المناخي، والنظام العالمي الليبرالي. ومع ذلك، فإن الضرر محصور، وقد يتم تقليصه في نهاية المطاف إن لم يتم هزيمته.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية