نون والقلم

لطيفة حسيب القاضي تكتب: المخطوطات العربية الإسلامية مصدرٌ للتراث

اِشتُقَّتْ كلمة «مخطوطة» من الكلمة اللاتينية manuexemplare، تلك التي تعني «قطعة مصنوعة يدويًّا»، وهنا تشير كلمة مخطوطة إلى قطعة مكتوبة بخط اليد من العمل الأدبي، أو العلمي أو الفني، سواء أكانت مكتوبةٌ على ورق، أو جلد أو ألواح طينية، أو حجارة وغيرها.  

أخبار ذات صلة

وقد يكون للمخطوط نُسخٌ متعددةٌ، والتعامل معه يكون بالورقات، وليس بالصفحات، ولكلّ ورقةٍ وجهٌ وظهرٌ. 

تُعدّ المخطوطات أحد رموز الأمة العربية الإسلامية وإحدى الركائز التي بواسطتها الحفاظ على هوية وتراث وتاريخ وحضارة الأمة، فهي ذاكرة حية لأمة امتد تاريخها خمسة عشر قرنًا؛ لأنها حلقة الوصل بين الماضي والحاضر فهي جزءٌ لا يتجزأ من حضارتنا العريقة. 

وممّا لا شك فيه أنها وعاء للفنون التراثية الأصيلة التي نالت الإمامة العظمى عند القدماء؛ ذلك أن «شرف العلم من شرف المعلوم»، وحصول الأنس بالتراث العربي الإسلامي من منظور التحقيق والتدقيق موجب لإعمال الفكر، وإِجَالَةُ النظر في الأصول العربية وسننها. 

وعلى هذا الأساس تُعدّ المخطوطات وعاءً للعلوم باختلاف مجالاتها وتنوّع موضوعاتها، فهي دلائل وآثار حضارة عظيمة أسست لحضارات أخرى تحْفظَ ما جادت به عقول العلماء، وخَطَتْه أناملهم من تفسير للوحي، وشرحٍ للأحاديث النبوية، وفقه الأمة وتاريخها ولغتها. إذ أن ما وصلنا من تراث أجدادنا هو كنزٌ ثمينٌ، وقوة دافعة نحو استشراف مستقبل حضارة لأمة لها السبق في شتى مجالات العلم، وفروع المعرفة. هذا التراث الذي يرسخ قيم العلم والعطاء المعرفي لبناء حضارة إنسانية متوهجة.  

 عالم المخطوطات: 

لعل من الدواعي التي حركت الولوج في تخوم عالم المخطوطات، الحاجة المُلِحّة لكشف اللثام عن مكنونات هذه الدرر النفيسة، ولا غَرْوَ في أن الغوص في المخطوطات تحقيقًا وإخراجًا هو قيمة معرفية مضافة لسلسلة البحوث الرصينة التي تحاول إيجاد مكانة متواضعة في المكتبة العربية الإسلامية. 

نشأة المخطوطات: 

مع بداية تدوين العلوم في عصر الأئمة.. وعند اتساع الدولة الإسلامية نشأت المخطوطات، ففي هذا الوقت احتاج الناس إلى من ينظم حياتهم، ويقيّم دينهم، فانتشر العلم، وأقبل الناس على الكتابة، والنسخ فاعتنى المسلمون بالمخطوطات؛ كونها السبيل الوحيد للحفاظ على ما أنتجه العقل العربي الإسلامي من مصنفات، ورسائل موضوعها الأساسي كتاب الله وأحاديث نبوية، فجعلوا منها تحفًا فنيةً ثمينةً، وتراثًا فنيًّا في مختلف مكتبات العالم. 

صناعة المخطوطات: 

تطوّرت صناعة المخطوطات العربية الإسلامية بشكلٍ كبيرٍ، حيث امتازت بدقة زخارفها، وجاذبية صورها، وإبداع ألوانها. فقد تمتع الخطاطون بمكانة مرموقة خاصة في العراق وإيران ومصر وتركيا؛ لأنهم كانوا يكتبون الأدب والشعر. 

لقد فُقِدَ كثير من المخطوطات بسبب الحروب والفتن والغزوات والسرقات المتتالية أثناء الحروب الصليبية، وفي عصر الاستعمار الحديث تعامل المستشرقون مع المخطوطات كغنائم حرب، بالإضافة لغياب الوعي العام عند معظم العرب والمسلمين بأهمية المخطوطات وقيمتها الحضارية، والعلمية، وإلى جانب الإهمال في حفظ المخطوطات في المكتبات العامة والخاصة، وبيع المخطوطات من بعض مالكيها للغربيين بسبب الفقر والعِوَز. 

وعلى هذا، فخلال الحرب الصليبية أُحْرِقَتْ آلافُ المخطوطات في المتاحف والأديرة، أما باقي المخطوطات فنُقِلَ إلى دور المخطوطات والمتاحف والأديرة الأجنبية، تلك التي تقدّر بثلاثة ملايين مخطوط كما أعلن معهد المخطوطات العربية. 

أنواع المخطوطات: 

تنقسم المخطوطات العربية من حيث طبيعتها إلى عدة أنواع وهي كالتالي: المخطوطات التي بخطوط مؤلفيها، والمخطوطات المنقولة عن نسخة المؤلف، والخزائنية، والمؤرّخة، والمصوّرة، والنادرة، والفريدة، والناقص، والذي على شكل مجاميع، والهجين. 

طرق نقل المخطوطات: 

تنتقل المخطوطات من شخصٍ إلى شخصٍ عن طريق: التملك أو البيع أو الهبة أو الشراء أو الإعارة، ونجد ذلك موجودًا على ورقة العنوان أو قيد الفراغ على هذه الصيغة: «تملّك هذه النسخة أو ملكه الفقير… أو انتقل بالشراء، أو البيع، أو بالهبة إلى ….» 

وخير مثال على ذلك نقل نسخة كتاب «مقامات الحريري”  لبديع الزمان الهمذاني عام 405 هجري، ونسخة كتاب «تقريب التهذيب» لابن حجر العسقلاني عام 852 هجري. 

وانتقل كتاب «البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان» عن طريق البيع والشراء إلى عماد الدين الأصفهاني عام 597 هجري، وانتقل كتاب «نهاية المجتهد وكفاية المقتصد» لابن رشد 595 هجري عن طريق الهبة، وانتقل كتاب «شرح الأسباب والعلامات» إلى نفيس بن عوض عام 852 هجري عن طريق الإعارة. 

وبناءً على ذلك، فإن المخطوطات التي كتبها المؤلف بخط يده من أهم المخطوطات التي توجد في المتاحف؛ لذلك يطلق عليها «المخطوط الأم»، حيث تتفرع منه النسخ الباقية، وعندما ينسخ المخطوط من المخطوط الأم، فإنه يحتل المرتبة الثانية في الأهمية. 

وبعض الكُتب يموت مؤلفها قبل أن يتمَّها، وهنا يتحوّل الإتمام لأحد تلاميذه، ولا يخلو هذا النوع من الخطأ. 

والبعض الآخر من المخطوطات يؤلفه صاحبه على مراحل مثل كتاب  «وفيات الأعيان» لابن خلكان. وهناك مخطوطات ينسخُها علماء مشهورين مثل ياقوت الحموي الذي نسخ كتاب الأغاني للأصفهاني في عشرة مجلدات، وتعدّ نسخ هؤلاء معتمدة؛ لأنهم كانوا ينسخونها لأنفسهم وعندما يموت أحدهم ينتقل الكتاب إلى مالك آخر، سواء عن طريق الهبة أو الإعارة، أو التملك، أو البيع. 

كيف تتم صيانة وترميم المخطوطات؟ 

الترميم هو عملية فنية تحتاج إلى حسٍّ عالٍ، ومهارات فائقة وهي تجميع وتثبيت وتقوية وإعادة المواد الأثرية إلى شكلٍ أقرب للأصل. فبالترميم يتم علاج الأثر المسنّ لإزالة بصمات الزمن من تشققاتٍ وكسورٍ وثقوبٍ، وعلى ذلك فأن مرحلة ترميم وصيانة المخطوطات تمر بمراحل التعقيم والمعالجة الكيميائية، ثم مرحلة الترميم اليدوي والآلي. 

تحقيق المخطوط: 

التحقيق: هو بذل عناية بالمخطوط حتى يصح عنوانه، واسم مؤلفه، وإثبات نسبة الكتاب إليه، ويكون متنه أقرب ممّا يكون إلى الصورة التي تركها مؤلفه، ويتم تقديمه للمطبعة بعد ذلك لنشره؛ ليطّلع عليه عامة الناس، وهذا ما يسمّى بـ«علم تحقيق الوثائق».  

وفي حالة ما إذا كانت النسخة أصلية فتثبت كما هي، وفي حالة ما إذا كان المؤلف قد نقل نصوصًا من مصادر ذكرها، فتُعرض هذه النصوص على أصولها، ويشار في الحاشية بإيجاز إلى ما فيها من زيادة ونقصان، وعلى المحقق تصحيح خطأ المؤلف في الحاشية. 

 نشأة الكتابة: 

 لم يكن العرب يجهلون الكتابة، بل سجّلوا العهود والمواثيق والمواعظ منذ الجاهلية، فكانت كتاباتهم أحيانًا حفرًا في الصخور، ونقشًا في الحجارة. ففي عام 270م عُثِرَ على نقوش نبطيةٍ وعربيةٍ، ومنها نقش «الزبد»512م ونقش «حرا اللجأ» 568م، وجميع النقوش تمثل مراحل تطور الخط النبطي الآرامي إلى الصورة العربية، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدلّ على أن الخط العربي -الذي كُتِبَ به القرآن الكريم- كان مشتقًا من الخط النبطي، وأن الكتابة قبل الإسلام وُجِدَتْ في شبه الجزيرة العربية.  

هذا وقد عرف قدماء المصريين الكتابة قبل الميلاد بما يقرب من ثلاثة آلاف عام. أما في آسيا الصغرى، فعرفها الحيثيون، وفي سوريا عرفها الكنعانيون، وعرفها أيضًا اليونانيون، وانتشرت بعد القرن الخامس قبل الميلاد. وفي هذا الوقت بلغت النهضة الأدبية في بلاد الإغريق ذروتها على يد «سوفوكليس وهيرودوت». 

نشأة الخط العربي: 

تعود نشأة الخط العربيّ إلى الخطّ السرياني، الذي جاء منه الخط الحميريّ، أو «المسند» أو «النّصب»، والخط النبطي،  ثم الكوفيّ،  والخط الريحاني والطومار والخط الفارسي والنسخ وخط التاج والديواني والثلث والرقعة، والخط المغربي، وخط التوقيع، والإجازة، وكل هذه الخطوط تميزت بالأصالة؛ لأنها جزء من التراث العربي والاسلامي  بما تحمله من قيم جمالية وبعدٍ إنسانيٍّ. 

تطور الكتابة: 

مرت الكتابة بعدة مراحل.. منها تحوّل الكتابة إلى الصورة العربية خلال القرن الخامس الميلادي، وعندما جاء الإسلام كان في قريش سبعة عشر رجلًا يكتبون. أما في عصر صدر الإسلام، فكانت بداية مرحلة جديدة من مراحل تاريخ الكتابة العربية، فقد كانت مرحلة ازدهار، إذ كانوا بحاجة إلى تدوين آيات القرآن وكتابة الرسائل التي بعثها الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ملوك الأرض ليدعوهم إلى الإسلام بالتالي حث الرسول «عليه أفضل السلام» على تعلم الكتابة. 

أما في بداية «العصر الأموي»، فتدخل الكتابة مرحلة جديدة من التطور في الشكل والإعجام، وتطورت إلى الحركات الإعرابية، وهذا التطور انعكس آثاره في أقدم المصاحف، فنجد أن النقوش والوثائق البردية ترجع إلى عصر الخلفاء الراشدين، حيث نجدها خالية من النقط، وعلى هذا، فإن الكتابة العربية لم تعجم إلا في عصر بني أمية، فكان للعراق السبق في وضع النقط والأعراب. 

بينما في الربع الأخير من القرن الأول الهجري، فسنجد الكتابة ذات نقطتين الأولى بلون المداد الأصلي، والثانية بلون مخالف. 

المواد التي تستخدم للكتابة عليها: 

اختلفت مواد الكتابة باختلاف العصر والمكان ومن هذه المواد:  

العسيب: وهي أوراق السعف وجريد النخل. والأديم: هو الجلد الأحمر المدبوغ. والبردي: هو نبات البردي ذلك الذي ظهر في مصر وفلسطين وبلاد ما وراء النهرين وصقلية، أما الرق، فهو الجلود التي كانت سمكها يسمح بالكتابة عليها مثل جلود الغزال، والورق: وأول من استعمله الصينيون، وعرفه المسلمون بعد فتح سمرقند عام 87هجري. 

المخطوطات العربية في المكتبات العالمية: 

توجد العديد من المخطوطات العربية في المكتبة البريطانية، حيث إنها تعد واحدة من أكبر المجموعات في أوروبا وأمريكا الشمالية؛ لأنها تضم ما يُقَارِبُ 15,000 مخطوطة. وتحظى هذه المجموعة بشهرة عالمية بسبب محتوياتها وتنوع موضوعاتها. وتوجد مخطوطات أخرى في مكتبات تركيا، وفي مكتبات أخرى في مدن مختلفة من أنحاء تركيا. ولقد أُنشئت في العهد العثماني، وتم الحفاظ عليها حتى اليوم. 

يوجد في إسطنبول تقريبًا 124ألف من المخطوطات النادرة، وتوجد في إيران مخطوطات عربية، ويقدر عدد المخطوطات فيها مئتي ألف مخطوط؛ لأن بلاد فارس كانت محط أنظار المسلمين الأوائل. وفي ألمانيا توجد مخطوطات عربية كان غرضها العلم وإعادة نشر العديد منها وطباعتها وفهرستها وصيانتها وترميمها. 

لقد جمع الألمان المخطوطات عن طريق الإهداء والشراء، لا على الاستيلاء.. ويقدر عدد المخطوطات العربية في ألمانيا بأكثر من 40 ألف مخطوط.  وتحظى فرنسا بالعديد من المخطوطات العربية، وكان اقتناؤها عن طريق الشراء، ثم تحول ذلك إلى بحث عن كيفية الاستيلاء عليها في الفترة1798 -1801 م التي قضاها نابليون في مصر، حيث سُلِبَتْ في هذه الفترة مخطوطات كثيرة من القاهرة. ولقد حالف الحظ إسبانيا في الحصول على المخطوطات العربية، فما تبقَّى منها في المدن الإسلامية الأندلسية كغرناطة وقرطبة وبلنسية وغيرها ضُمَّ إلى مكتبة دير الإسكوريال في مدريد، وضُمَّ إلى مكتبة الدير عام 1612 م.. 

ولقد حوت خزانة مولاي زيدان السعدي ملك مراكش الكثير من المخطوطات. كما دخلت أمريكا حقل المخطوطات العربية في أوائل القرن التاسع عشر عن طريق الشراء، ونجحت في اقتناء مجموعة نادرة منها. 

وفي المكتبات والمتاحف العربية توجد مخطوطات في مصر والمغرب وتونس والعديد من المخطوطات النادرة.  

ولقد اعتنت مصر اعتناءً خاصًّا بها، فبنت على شاطئ النيل دارًا للكتب والوثائق، ومعهدًا للمخطوطات العربية، وعلى شاطئ الأطلسي تحتفظ موريتانيا بمئات الآلاف من المخطوطات التي تعد كنوزًا لا تقدر بثمن.. إلا أنها تحتاج لثروات تقدر بمئات الملايين من الدولارات حتى يتم الحفاظ عليها من التلف والحرارة وعوامل التعرية والرطوبة. 

  

 t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر  لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية 

أخبار ذات صلة

Check Also
Close
Back to top button