من روعات الأدب الإنجليزي تلك القصة الخيالية لـ«هيربرت ويلز» والتي صدرت في النصف الأول من القرن الماضي واسمها «بلد العميان» وهي حكاية قرية على جبال الانديز تعيش في عزلة عن العالم صاب سكانها مرض أفقدهم البصر وتزوجوا وانجبوا أجيالا من العميان.
وكان احد متسلقي الجبال يمارس هوايته فزلت قدمه وهوى على اشجار ثلجية احتضنته وعندما افاق من صدمته فوجئ بواقع غريب لقرية منازلها بلا ابواب وحوائطها ملطخة باشكال عشوائية وعندما هم للنزول ليتحدث الى سكان هذه القرية لاحظ ان من ينادي عليهم لايلتفتون نحوه وانهم ينظرون في اللاشئ.
وعندها اكتشف انها بلد من العميان وعندما بدأ يتحدث معهم عن البصر وانه كيف يرى الاشياء والوانها واشكالها واحجامها..اعتبروا كلامه شيئا غريبا ….وما معنى البصر والابصار وكيف يبصر الانسان….لا لا لا انها قصة غريبة وقول اغرب.
لدرجة انهم اعتبروه مريضا ولابد من اقتلاع عيونه حتى يشفى.. وفي عرفهم يصبح العمى صحيحا والبصر مرضا يجب ان نتخلص منه.. وهكذا يكون اي مجتمع اعمى تواجد فيه انتهازيون كل همهم جني الارباح والمكاسب ولامكان للعطاء فهو مرض ويجب التخلص منه.
عندما يكون الجهل والتخلف والتطرف والعنف والتعصب والفوضى سائدا وتظهر دعوات للتفكير والتبصير والتنوير يتم التربص بها واتهامها بالكفر والخيانة الوطنية وعدم المسئولية.
دولة العميان تتجلى في اي مجتمع تسوده الطائفية وعدم قبول الاخر ونعته بكل الاوصاف الجارحة…دولة العميان هي التي لايرى اهلها الا ما ألفوه وساروا عليه «هذا ماوجدنا عليه اباؤنا» واي دعوة الى التفكير واعمال العقل تقابل بدعوات ما انزل الله بها من سلطان.
ويضيع العمر مابين حقيقة وظنون.. صحيح ان اوراق ورد البيتونيا الابيض جميلة وتثير البهجة والصفاء..ولكن ماذا لو تخيلنا انه لايوجد في عالمنا الا هذا النوع من الورود ..هل سيكون له نفس الاثر؟ وماذا لو اتى لنا جنايني «فاجر» بالورد البلدي والقرنفل والياسمين والريحان هل من المنطق ان نقيم عليه الحد.
كل الامم اتفقت على «دع الف زهرة تتفتح» فالافكار ايضا تحتاج ان تتلاقح وتتفتح .. فابن حزم كان اماما في بلاد الاندلس وقدم افكارا اختلفت بشكل او اخر عن الأئمة الاربعة والشافعي غير بعض من كتبه عندما استوطن مصر وأبو حنيفة رفض منصب قاضي القصاة وامتثل للسجن احتراما لذاته وقدراته.
وابن حنبل سجنه ثلاثة خلفاء من العباسين لعامين ونصف تحت التعذيب رافضا ان يعترف ان القرأن مخلوق وليس قديم مع ان هذه القضية لاتقدم ولاتؤخر في امر العامة وكان يمكن ان يقولها كما نصحوه تحت بند “التقية” ولكنه رفض وابن رشد حرقوا كل مؤلفاته لانه سبق زمانه والليث ابن سعد افقه علماء مصر اهمل تلامذته مؤلفاته واندثرت وهو كغت خليطا من المذاهب فكان بين مالك وابو حنيفة والشافعي واشاد به ابن حنبل وكانت له خصوصيته المصرية.
وفي عصرنا الحديث لاقى طه حسين عميد الادب العربي كل اشكال اللوم عندما صدر له كتاب في الشعر الجاهلي وتم عزل وطرد الشيخ د.علي عبد الرازق من الازهر في بداية القرن العشرين وعاد في منتصفه وزيرا واخيه د.مصطفى عبد الرازق شيخا للازهر.
فلولا ما اتى به رفاعة رافع الطهطاوي من تنوير بعد ان عاد من بعثته ورفاقه من باريس لكانت مصر مازالت في غياهب الجب…لابد ان نعيش الزمن الحاضر بالفكر الحاضر المتطور و هذا لايدعونا الى ترك الثوابت ولكن مقارعة الحجة بالحجة ومنطقة الاشياء التي غمت علينا لسنوات طويلة لابد لها من كشف حساب وان لانستسلم لمنطق بلد العميان.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية