نون والقلم

د. سمير محمد أيوب يكتب: نوافذ على بعض ما قد مضى من العمر 

النافذة الأولى – أحلامنا

 كانت تُحاصرُنا أبناء جيلي وأنا، وقائعٌ كثيرةٌ مؤلمة. كان كل شيء من حولنا فقيرا، إلا قلوبنا وأرواحنا وطموحاتنا وإراداتنا، فقد كان حدُّها السماوات العُلا. لم نَحبس شيئا منها مع قلة ملامحها. فرادى لم نكن نُحسِن الابحار بين تضاريس تلك الوقائع، ولا تلك الاحلام. لذا لم نسجن أنفسنا في عزلة بائسة او انيقة.  

أخبار ذات صلة

 كنا ندرك إلى أين نريد أن نصل، فكنا نبحث عن احسن السبل للوصول، لم تكن اي طريق تفي لنا بالغرض. إنفتحنا على واقعنا الاصغر، وتقاطعاته العربية الكبرى، بحثا عن الحقائق فيما حولنا من وقوعات.  

تقلَّبْنا في حواضن فكرية، ومدارس سياسية وأطر تنظيمية متعدده، دون ان نفهم كثيرا، فما كان في الأفق آنذاك سواها. كنا ندرك أن وجودنا بلا أحلام منتمية للوطن ليس له معنى. شرّقنا وغرّبنا في ساحات الحوار والجدل والمماحكات، على غير هدى وبلا تخطيط، سوى صدق النوايا وعزم الشباب، وبوصلة تحرير ما اغتُصب من  فلسطين 

لامسنا الفكر الليبرالي والايديولوجيا البلشفيه والاشتراكية الفابيه، وانغمسنا في الفكر القومي بكل تفرعاته ومدارسه، والموروت الديني الجهادي، والتقوقع الوطني الممعن في محليته وقطريته.  

حاورنا ساطع الحصري، عبر ميشيل عفلق وجورج حبش وانطون سعاده. وقاربنا مادية إنجلز وجدلياته عبر ماركس ولينين وستالين وماو وتروتسكي وبكداش. وكانت لنا صولات وجولات مع المخزون الهائل من الإسلام الجهادي، عبر تقي الدين النبهاني وأحمد الداعور وحسن البنا وسيد قطب، وغيرهم من تابعين وتابعي التابعين، وتلاميذ ولصوص وشذاذ آفاق فكريه.  

بحثاً عن بداياتِ طُرق ومعارج إلى أحلامنا بوطن محرر، دلفنا بوابات وشبابيك كل الحركات والاحزاب والمنظمات والتنظيمات والداكاكين والبسطات، الدولية والعربية والفلسطينية. حاورناها في كل ما كانت تتكأ عليه، من مخزونِ وموروثاتِ الفكر الانساني في كل مكان. حاول بعضها استنساخ ذاك المخزون الفكري وتبنيه فجّاً كما هو، وتارة احتوائه مستنسخا معدلا، ومرات اخرى حاولت تدجينه ولي عنقه والانتقاء منه بعشوائية، تتوافق مع هواها المتحرك كبندول ساعة حائط.  

إنغماسُنا في البحث عن أفضل البرامج والسبل والأدوات والمواقيت، التي نحرر بها ما كان قد اغتصب حينها من فلسطين، ساقنا إلى نقد هذا، وتسفيه ذاك، ولعن ثالث، والتأفف من رابع، والتصفيق لخامس، والعشق المتنقل الرجراج لسادس.  

تعثر الكثير من أحلامنا، وبعضها سقط سقوطا مدويا، بعضها انتفض ونفض عن مشاريعه الغبار، ونهض مكملا مشواره.  

عشنا أمجادا ملأتنا نشوة. طرد عنوان الفساد في مصر فاروق، فشل العدوان الثلاثي على مصر، في تحقيق أي من أهدافه المعلنه. تم تحرير الجزائر وجنوب اليمن. تحققت أول وحدة عربية معاصره بين سوريا ومصر. خلت الأراضي العربية من الظلال السود ( ولو شكليا وظاهريا) من القواعد الأمريكية الاستعمارية. 

نهوض الشعب الفلسطيني عبر منظمات متعددة  لممارسة العمل المسلح، لتحرير ما كان قد اغتصب من أرضه. شهدنا ملحمة الكرامة، وهي تطرز بدماء بواسل الجيش العربي الأردني، وفي مقدمتهم البطل القائد مشهور حديثه، والمناضلين الفلسطينيين  وسحق عدوان إسرائيلي على أرض الأردن. 

اكتوينا بالمقابل، باوجاع هزائم وكوارث متتالية، بعضها ساحق جاء احتلال على خطاه، ومن ثقوب بعضها تسللت حروب محلية،  نقشت بصمات الخراب النفسي شواهد على عبورها المقيت، وبعضها متلعثم. ماحقة لشئ من أحلامنا، ما كنا نتمنى ان نكون قد عشناها، انتصرت العشيرة والقبيلة السياسية، اوالحزبية الضيقة على بلدانها، تنظيمات وعشائر وقبائل سياسية   خذلت اوطانها ولم تنتصر لها،  بل استعملتها سلالم لمصالحها.  

 شاعت عبادة الفردانية وتقديس الشمولية وتعطيل المؤسسات، وحياكة الدسائس لتمزيق اردية البلاد، والحط من حقوق العباد وكراماتهم، جريمة انفصال تجربة الوحده، هزيمة 67، اكتمال اغتصاب فلسطين وضياع الأقصى، واحتلال اراض عربية اخرى غير فلسطين. وعما جرى ويجري في لبنان وسوريا والعراق وليبيا والصومال واليمن من اقتتال داخلي غير مفهموم، حدث ولا حرج. وبالطبع ما سبق كل ذلك من اقتتال فوضوي، في الاردن عام 1970، بين النظام والمنظمات، عرف في حينه باسم ايلول الاسود.  

تحايلنا على منظومات احزاننا، وخيبات امالنا بعفوية وبعذرية متميزه . حرصنا بلا انفصام، على ان لا تنهزم قلوبنا وعقولنا وارواحنا.. لنتحرر من ضغوط خيباتنا تلك خبأناها في جهود متصلة، للمشاركة في عمليات ترميم عامة بعيدا عن ذواتنا الفرديه.  

لم يرتح لنا بال حتى الآن ولم تهدأ لنا همة. لم تزل الهموم على عهدها منذ اكثر من ثمانين عاما، تعشق فلسطين كجزء من الوطن العربي الكبير، وتوقظ الحنين لاهلها كجزء من امة العرب.  

وقد تجاوزنا ما تجاوزنا من وقائع،  ومن وقوعات مؤلمة على الارض ، بعضها بالتأكيد مشبوه المحتوى او الادوات اوالمواقيت. في كل تلك السنوات سافرنا كثيرا بعيدا وقريبا،  حرصنا على ان لا نتغير كثيرا فيما نملك وتغيرنا كثيرا في الشكل. ولكننا لم نصبح اشخاصا أُخَرْ. لا نزال  بحميمية اصيله نصادق طفولتنا وصبانا وشبابنا. لم نعرف اليأس وان الَمّ بنا بين الفينة والاخرى شئ من التشاؤم العابر.  

 لاننا نحب احلامنا، ونحرض على ان لا تشيخ معنا يوما ما، لن نكف عن الحلم بها، اقول وعيوننا تلمع باحلام سنبقيها شابة طازجه نشطه: ان في داخل كل منا لا زال وطن خاص، يحتمي في حناياه، لكل منا طرقا يسلكها اليه وفيه. ولكن حبل السرَّة في هذه العلاقة القومية، يبدء من هناك وينتهي هناك، في مكان ما في فلسطين القضية، من بحر يافا وجبال الجليل ورمل غزة واول الماء في الاردن. مع كل ربيع تنبت لاحلامنا اوراق جديده،  تكاد تغطي وجه السماء.  

ولن نلتقت كثيرا او مطولا، إلى ما يسقط منها لاي سبب على الارض. 

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا 

 

   t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر  لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى