في البداية هدف التدخل العسكري الروسي المفاجئ والصاعق في سوريا إلى إنقاذ النظام السوري من سقوط بات مسألة وقت ليس ببعيد، على ما يمكن فهمه من التطورات الميدانية ومن تصريحات للرئيس الأسد بأن جيشه بات منهكاً وتتضاءل قدرته على الصمود. وسقوط دمشق في أيدي أعداء موسكو يشكل كارثة استراتيجية حقيقية لهذه الأخيرة.
ويمكن القول إن هذا التدخل، بالإضافة إلى المكاسب الميدانية التي يصعب تجاهلها رغم محدوديتها إلى الآن، حقق مكاسب سياسية عديدة لموسكو منها:
– أنقذ النظام السوري من السقوط، في المدى المنظور على الأقل، ما يجعله قادراً على الصمود المدة الكافية لاستخراج الحل الدبلوماسي.
– قطع الطريق على أي تدخل عسكري خارجي في سوريا، من قبل تركيا على سبيل المثال في سعي من أردوغان للخروج من مآزقه الداخلية ولتحجيم الخطر الكردي المتعاظم. لقد انتهى الكلام اليوم عن إقامة مناطق حظر جوي وما شابه من مناطق آمنة في سوريا لإيواء اللاجئين.
– وضع موسكو في قلب المعادلة الدولية المتعلقة بسوريا حيث باتت طرفاً يستحيل تجاهله في أي حل مستقبلي. أكثر من ذلك تبدو موسكو اليوم وكأنها تحظى بتفويض دولي للعثور على مثل هذا الحل. فهي الوحيدة، من بين كل العواصم الأخرى المعنية بالصراع، القادرة على التواصل مع كل الأطراف السورية الداخلية، من معارضة معتدلة وأقل اعتدالاً، والإقليمية، من إيران إلى السعودية مروراً بتركيا ومصر وغيرها، والدولية من أمريكا إلى أوروبا والصين.
– حقق حلماً قديماً لروسيا بالتواجد الدائم في المياه المتوسطية الدافئة. فالقواعد العسكرية الروسية القائمة والتي يجري بناؤها أو تطويرها، سواء في طرطوس أو اللاذقية أو الداخل السوري، باتت في حكم الأمر الواقع الذي سيفرض نفسه في المستقبل السوري.
هذه الإنجازات هي الحد الأقصى الذي يمكن أن تحققه العملية العسكرية الروسية. فالقصف الجوي كما هو معروف لا يمكن له تحقيق النصر النهائي، والمشاركة الروسية في الحرب البرية مغامرة غير محسوبة العواقب كما دلت كل التجارب التاريخية في الحروب بين الجيوش النظامية والجماعات المسلحة من فيتنام إلى أفغانستان والعراق. والجيش السوري، ولو مدعوماً بمئات الخبراء الروس والإيرانيين والميليشيات الحليفة، يبقى عاجزاً عن تحرير كامل الأرض السورية والعودة بالأمور إلى ما قبل العام ٢٠١١. والأزمة الاقتصادية في روسيا لا تسمح بالانزلاق في حرب طويلة مكلفة وصعبة. لذلك كان على الرئيس بوتين أن يسارع إلى البناء على ما تحقق لقطف ثماره السياسية قبل أن تصبح هذه المكاسب نفسها في مهب الريح نتيجة الانزلاق في حرب طويلة مريرة.
في هذا الإطار يقع سفر الرئيس الأسد إلى روسيا في ٢١ الشهر الجاري، وهو الأول خارج البلاد منذ بداية الأزمة. بالطبع أنصاره فسروا هذه الزيارة بأنها تأكيد على تمسك بوتين به وبأنها انتصار نهائي على معارضيه. في المقابل رأى مناهضوه بأن بوتين استدعاه ليقول له مباشرة بما لا يسره ولا داعي لقوله علناً.
في الحقيقة أن سرية هذه الزيارة والطريقة التي تمت بها، حيث إن الرئيس السوري ذهب وحيداً من دون مرافق واحد سوى مترجمه الخاص وعاد في اليوم نفسه كما سافر على متن طائرة عسكرية روسية ومن مطار عسكري روسي قرب اللاذقية، تشي بأنها كانت أشبه بالاستدعاء ولإبلاغه بأمور مهمة حساسة على انفراد ومن دون وسطاء. ثم إن اتصال الرئيس الروسي مباشرة بعد هذا اللقاء بالملك السعودي سلمان والرئيس التركي أردوغان كان على الأرجح مرتبطاً بما جرى في هذا اللقاء.
أكثر من ذلك فبعد يومين اثنين فقط على هذا اللقاء، انعقدت في فيينا، وبناء على دعوة موسكو، قمة رباعية بين وزراء خارجية موسكو وواشنطن والرياض وأنقرة لبحث الأزمة السورية.
بالطبع لم يكن متوقعاً أن تنتهي جولة تفاوضية واحدة في فيينا باتفاق ينهي حرباً تورطت فيها دول كثيرة كبرى وصغرى منذ أربع سنوات. لكن الأمور تتحرك بسرعة، والكل يريد حلاً سياسياً قبل أن تخرج الأوضاع من السيطرة، والهوة باتت تضيق ما بين الأطراف وتكاد تنحصر في مستقبل بشار الأسد نفسه والذي بات بوتين صاحب الكلمة الفصل فيه.
لا يزال بوتين يردد بأن الشعب السوري وحده هو من يقرر مستقبل رئيسه وذلك عبر انتخابات نزيهة وحرة. لكنه يعرف تماماً بأن هذا الرئيس لا يسيطر على أكثر من ثلث الأراضي السورية، واستعادة الثلثين الباقيين، رغم تدخل روسيا والحلفاء، ليست مضمونة وبهذه السهولة والسرعة. فأين ستجري هذه الانتخابات وأي شعب سوري ذلك الذي يتكلم عنه بوتين؟ ذلك الذي يقطن في مناطق النظام أو المعارضة أو المخيمات في دول الجوار أو في دول اللجوء الأوروبية؟
في المقابل لا يزال مناهضو الأسد يرددون علناً أن لا مكان له في الحل السياسي ولا في المرحلة الانتقالية. لكن يبدو بأن تغيراً بدأ يطرأ على هذه المواقف في اتجاه القبول ببقائه في مرحلة انتقالية. أما كم تدوم هذه المرحلة، وما دوره فيها بالتحديد؟ فعلى الأرجح أن المفاوضات تدور حول هاتين النقطتين وحول أسماء شخصيات سورية لم تتلطخ أيديها بالدم لاستلام المسؤوليات في المرحلة المقبلة.
هناك مفاوضات تدور حول أمر بالغ الأهمية وعلى قدر عال من الجدية. فإذا أفضت إلى اتفاق لا بد أن ينسحب ذلك إيجاباً على بقية ملفات المنطقة، وإلا فإن روسيا تكون قد دخلت في مستنقع والمنطقة في فوضى هدامة ونفق لا نهاية له.
33 3 دقائق