حياة المصريين مع التقشف طويلة عبر العصور لمواجهة الأزمات التي كتبت على هذا الشعب المكافح الصبور أن يواجهها ويتعايش معها مهما كانت الظروف، لتكون النتيجة في النهاية فاقد أو مفقود.
وحكاية المصريين مع شد الحزام معروفة، وقد شدا بها مطرب الشعب سيد درويش عام 1919، قائلا:
«شد الحزام على وسطك غيره ما يفيدك.. لابد عن يوم برضه يعدلها سيدك
إن كان شيل الحمول على ضهرك بيكيدك.. أهون عليك يا حر من مدة إيدك
ما تيلا بينا إنت وياه .. ونسنعين على الشقا بالله».
الأغنية التي كتبها الشاعر بديع خيري لفنان الشعب كانت تنسجم تماما مع واقع مر يعيشه المصريون في تلك الأوقات، وجاءت أغنية الشيالين عن نفس المعنى وشدا بها أيضا فنان الشعب منذ أكثر من قرن وتقول كلماتها:
«هقولك أيه وأعيد لك أيه كله له أخر.. دي خبطة جامدة وجت على عينك يا تاجر
يا وحستك دلوقت لا وارد ولا صادر.. يحلها ألفين حلال ربك قادر».
محطات التقشف في حياة المصريين مرت عبر عدة مراحل، الأولى كانت بالدعوة إلى الاقتصاد في الاستهلاك والتقشف المؤقت خلال ثورة 1919، وكانت معركة كسر عظام بين الشعب المصري والمحتل الإنجليزي في سبيل نجاح الثورة ووصول صوت المصريين إلى العالم.
الثانية كانت في أعقاب ثورة يوليو 1952، عندما رد الرئيس جمال عبد الناصر على مراوغة أمريكا له بقطع المعونة بأن الشعب المصري على استعداد أن يستغني عن «كباية الشاي» من أجل توفير المعونة.
الثالثة كانت في حرب أكتوبر 1973، حيث تحمل الشعب المصري سوء الحالة الاقتصادية التي تمر بها البلاد ووقف مساندا وداعما لجيشه الوطني وقواته المسلحة في حرب العزة والكرامة وتحمل الظروف الاقتصادية الصعبة واختفاء السلع لفترة امتدت من حرب الاستنزاف إلى النصر، وطلب الرئيس أنور السادات من المصريين الصبر وشد الحزام لتجاوز المحنة، قائلا: «شدوا الحزام، فإن خزائن مصر خاوية بسبب النكسة، وعلينا إعادة بناء الجيش».
الرابعة في بداية عهد الرئيس حسني مبارك، طالب المصريون بشد الحزام لأن سياسة الانفتاح التي اتبعها الرئيس السادات أضرت بالاقتصاد وظل يكرر هذا النداء طيلة 30 عاما.
الخامسة كانت منذ اندلاع الثورة حتى بعد تولى الرئيس محمد مرسى الحكم، توالت الحكومات، التي طالب رؤساؤها بتطبيق «سياسة شد الحزام»، وإصدار مجموعة من القرارات التقشفية منها استخدام اللمبات الموفرة للطاقة للإنارة في الشوارع بديلاً عن اللمبات المتوهجة، بعدما انقطعت الكهرباء عن البيوت فجأة، وعاش المواطنون في الظلام الدامس لمرات متتالية، بسبب سياسة التقشف، التي طبقتها وزارة الكهرباء بعد زيادة الأحمال.
السادسة في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، والذي حث المصريين على مواصلة تحمل الإصلاحات الاقتصادية وتدابير التقشف وموجات الارتفاع في أسعار الوقود والكهرباء ومياه الشرب، مؤكدا أن طريق الإصلاح الحقيقي صعب وقاسي ويسبب الكثير من المعاناة.
باختصار.. وضع المصريون الآن مع الممارسات الحكومية صعب جدا، فالمواطن المصري بات أمره مأساويا والحزام لا يجد ما يرتكز عليه بعدما وصلت مرحلة الشد إلى أقصاها، ولم تعد البطون الخاوية لديها القدرة على حمل الحزام من أصله!!
تبقى كلمة.. في الوقت الذي يتبع فيه المواطنون سياسة التقشف الإجباري، نظرا لما أصاب البلاد والعالم من أزمات اقتصادية وباتت أقل السلع فوق إمكانات المواطنين، وضرب ثالثوث الجوع والمرض والفقر حياتهم أغفلت الحكومة أعينها عن الأسواق وأرخت قبضتها الحديدة وتركت التجار يتلاعبون بأقوات المواطنين وأرزاقهم، حتى تحولوا إلى حيتان تتلاعب بالأسواق دون رادع من قانون أو ضمير، وباتت حياتنا بين التقشف وشد الحزام من ناحية، وبين تجار الأزمات والقطط السمان من ناحية أخري.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
In -t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر ولينكدإن لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية