ظن العدو الإسرائيلي أنه سيد الميدان، وضابط الجبهة، والمنتصر في المعركة، ولا يوجد من يبزه أو يخافه، أو يخشى ردة فعله ويحذر غضبه، فهو يظن أنه الحاكم بأمره والمتصرف في ملكه والمتفرد في شأنه، ولا راد لحكمه، ولا معترض على قضائه، ولا أحد قادر على صده أو يستطيع منعه، وأنه وحده الذي يتحكم في خيوط اللعبة وقواعد الهدنة، ولا يقوى غيره على المساس بها أو تهديد سريانها، وهو المسموح له أن يحترمها عندما يريد ويخترقها إذا شاء، وليس له أن يعتذر عن الخرق، أو يقدم المبررات للفعل، وعلى الجميع تفهم قراره، والصمت إزاء أفعاله، وعدم استنكارها أو شجبها.
لهذا وخلال الهدنة الأولى قام بإطلاق النار على بعض سكان شمال غزة، الذين رغبوا في مغادرة الجنوب والعودة إلى بيوتهم في الشمال، فقتل اثنين من العائدين وأصاب آخرين بجراح مختلفة، وأطلق مئات قنابل الغاز الخانقة، ووقفت دباباته في وسط شارعي الرشيد وصلاح الدين، تصد المواطنين، وتمنع العائدين، وتهددهم بإطلاق قذائف المدفعية والدبابات، أو أن يعودوا أدراجهم إلى الجنوب الذي لجأوا إليه، وصدقوا وعود جيشه بأن الجنوب آمن، وأن القصف لن يطاله، والطائرات الحربية لن تغير عليه.
راجعت المقاومة الفلسطينية الوسيطين القطري والمصري، وقدمت لهما الأدلة والشواهد على اختراق العدو للهدنة، وعدم احترامه لبنودها، واستخفافه بالمواطنين وإطلاق النار عليهم، ومنعه دخول شاحنات المؤن وقوافل الإغاثة والوقود إلى شمال القطاع، وطالبتهما بصفتهما ضامنين له وكفيليه، أن يمارسا دورهما المسؤول، ويجبراه على الالتزام ببنود الهدنة وعدم انتهاكها، وتحذيره من تبعات السياسة الانتقائية العبثية التي ينتهجها، وإلا فإنه يتحمل كامل المسؤولية عن انتهاك الهدنة، أو تعطيل وتأخير تنفيذ بنودها، وكانت المقاومة جادة في تحذيراتها، وحازمة في موقفها، وأجلت بالفعل تسليم الدفعة الثانية من أسرى العدو حتى يتراجع ويلتزم.
لكن العدو الإسرائيلي لا يتخلى عن طباعه، ولا يستغني عن غبائه، ويصر على ارتكاب نفس أخطائه، ويتمادى في خروقاته، ظاناً أن المقاومة ستكتفي بالشكوى، وتطمئن إلى مراجعة الوسطاء، ولن تقوم بأي ردةِ فعلٍ قاسية، فقامت دباباته بإطلاق قذائفها المدفعية على أهداف مدنية فلسطينية قريباً من مخيم الشاطئ، وأخرى في منطقة «التوام» القريبة من مخيم جباليا وبلدة بيت لاهيا، حيث قام بتدمير خزانات المياه العذبة في المنطقة، وأتلف محطة تحلية المياه وعطل عملها، وعاد أدراجه وكأنه لم يقترف جرماً ولم يرتكب خطيئة.
إلا أن المقاومة الفلسطينية التي فرضت تغيير قواعد الاشتباك مع العدو، وأوجدت بعد السابع من أكتوبر واقعاً جديداً، كوت به وعيه وصدمت عقله، وأجبرته على الاعتراف بها والتفاوض معها، رأت ألا تسكت عن الخرق، وألا تكتفي بالشكوى عليه لدى الوسطاء، بل أصدرت أوامرها وحركت مجموعاتها، وفعلت عبواتها وأعطت الأمر بتفجيرها، الأمر الذي صدم العدو وأربكه، وأيقظه من سكرته وأعاده إلى وعيه، فرفع صوته وجأر، وإلى الوسطاء لجأ، وطالبهم بعد أن طالت نيران العبوات جنوده ودباباته، أن يمارسوا دورهم في وقف عمليات المقاومة، ودفعها إلى العودة إلى أصول الهدنة والالتزام بها.
كما لم تتأخر المقاومة الفلسطينية في ردها العسكري على الأرض وفي الميدان، فإن ناطقها الرسمي لم يتأخر في التوضيح والبيان، فأكد في تصريحاتٍ جليةٍ واضحةٍ، أن هذا هو رد المقاومة العملي العاجل على سفاهة العدو وعدم التزامه، وهو ردٌ أوليٌ قد يتبعه غيره إن تغابى وعاد، أو جهل وكرر، فالمقاومة جادةٌ في وعيدها، وماضية في تنفيذ سياستها وإملاء شروطها حتى يخضع العدو لها ويلتزم بها، وإلا فإنه سيرى غيرها وأشد منها، وسيذوق مُرَّهَا وأسوأ منها، وعلى الوسطاء أن يعلموه جاهزية المقاومة، وقدسية الدماء الفلسطينية، وحرمة بيوتهم وممتلكاتهم.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
In -t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر ولينكدإن لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية