بمجرد أن تقرأ العنوان تجد نفسك وصلت للمكان، فتجلس في محادثة نادرة مع «شخصية وتاريخ الأستاذ» في مقالة تحليلية، فاقت الذكاء الاصطناعي بعبارات تملؤها مشاعر إنسانية تجبرك على المضي حتى النهاية، وتلزمك بالارتواء من مياه المعرفة الممتزجة بالروح الهيكلية التي استدعاها الدكتور حماد إبراهيم في مقاله: «هيكل: المدرسة والتأثير».
للمرة الأولى، نكتشف نسخة أخرى من الحقائق الثابتة التي اعتقدنا لوقت طويل أننا ندركها بصورة كاملة، ليتبين لنا أن للحقيقة وجوه أخرى، فنعاود قراءتها مرات عديدة لندرك هذا المعني جيداً فيما كتبه حماد إبراهيم عن هيكل.
استمعنا في هذه المقالة إلى صوت حماد وهيكل، وشاهدنا لقطات سينمائية تبرق في وعي من يقرأها، وكأنها برنامج وثائقي غاص به حماد بعشق في أعماق محيط مناطق وأزمان الأستاذ هيكل، فاستخرج أنواعاً من اللؤلؤ توحدت في لونها الأبيض رمزاً للشفافية والنزاهة والثقة، وتنوعت في أحجامها التي اتسمت كلها بالاتساع الشبيه بحالات الصوفية.
إن السير في مضمار هيكل يماثل السير إلى ابن عربي في التصوف، فقد حمل كلاهما شعلة النور في طريق الحقيقة التي تحتاج إلى أدلاء للسير إليها.
حمل الدكتور حماد إبراهيم مصابيح النور للراغبين بالسير في طريق صحافة هيكل التاريخ والحاضر واستشراف المستقبل عبر مقاله التحليلي: «الأستاذ: المدرسة والتأثير»، والذي قدم في طياته إضاءات مبتكرة طرحت مفهوم «الأستاذ» بصورة تستدعي ضم هذا الوعي إلى المعاجم اللغوية والإعلامية.
واقتبس فقرة من مقال حماد إبراهيم عن الأستاذية التي تحققت في شخصية هيكل حيث يقول: «إن مفهوم «الأستاذ» الذي صار مرادفاً ومعادلاً موضوعياً لاسم الكاتب الكبير هو أكثر المفاهيم دقة وواقعية في الحياة الصحفية والإعلامية المصرية المعاصرة؛ ذلك لأن أستاذية المرء ليست مجرد محصلة لألقاب أو درجات أو مواقع ومناصب، ولكنها «مكانة خاصة» يحظى بها في عقول البشر وقلوبهم».
وفي ملمح بارع عند الحديث عن إبعاد محمد حسنين هيكل من رئاسة الأهرام عام 1974 وتعيين الأستاذ على أمين بديلاً عنه دون حماد قاعدة ذهبية نقتبسها من مقاله كما أوردها: «أدرك على أمين مُبكِّرا أن «القرار السياسي» لا يكفي ليكسبه شرعية البقاء في مؤسسة نجح أبناؤها في أن يشاركوا قائدهم بناء «مدرسة صحفية» تختلف كثيراً عن تلك التي بناها الأخوان على ومصطفى أمين في أخبار اليوم».
ونستلهم من حماد أن القرار السياسي لا يكسب أحداً شرعية البقاء الناجح في أي موقع، وأن شرعية البقاء ترتكز على التميز والابتكار وتغليب المصلحة العامة على الخاصة، إذ يعد هيكل نموذجاً لاستدامة العطاء رغم رحيله عن الأهرام في عام 1974 فمازال حاضراً يتجدد على مر الزمان.
ومع إبداع حماد إبراهيم، يحضر الوعي مسرعاً ليخبرك أن ما تقرأه عينك ويدركه وعيك هو نسخة أخرى من الحقيقة في حالة نادرة ممتزجة بالكتابة المهنية والعلمية والأكاديمية، ما يدخل هذه المقالة في تصنيفات التحقيقات الاستقصائية المبتكرة والمكتملة التي ضمت المعلومة والفكرة والأسئلة والافتراضات المحتملة للقضية في ملمح يؤطر لقالب جديد في الكتابة الصحفية والتناول المهني.
إن الكتابة عن الأستاذ هيكل نوع من المغامرة لا يفوز بها الا من امتلك سفينة الفكر، وأشرعة الفهم، واختبر الغوص في أعماق مياه المحيطات.
استثار مقال الدكتور حماد إبراهيم الأستاذ بكلية الإعلام في جامعة القاهرة، تساءلت عديدة عمن يملك المزج بين تقديم التاريخ، والتصورات، والأحداث، والاسقاطات في شرعية الذات الصحفية، وعبقرية شخصية هيكل الأستاذ؟ ومن يقدم مفهومً الأستاذ عبر الرواية والقصة ممزوجةً بقواعد أكاديمية لدراسة الصحافة والتأكد والتحري من صدقية الخبر ومتابعته، وخوض غمار التحديات المرتبطة بنزاهة الصحفي ومهنيته، ومسافات العلاقات ولحظات الكشف عن ولاء الصحفي ولمن يكون ولاؤه للمهنية أم الضمير أم رأس المال أم الدولة وكذلك المناطق المحرمة لأي صحفي الدخول إليها؟
وأخبرتني قراءة المقال أن أستاذاّ كتب عن الأستاذ، فالمقال يعد نسخة مصغرة لرسالة دكتوراة عنوانها: «شخصية هيكل ومدرسته الصحفية».
للوهلة الأولى، لم تكن الكتابة عن هيكل جديدة، فمنذ سنوات وزميلنا العزيز الصحفي الموهبة أمين الدوبلي يحكي تاريخ هيكل، ومواقفه، وتحدياته وعبقريته، في حالة من الوفاء النادر لمن رأي فيه النموذج والأسطورة الواقعية، فالدوبلي عاشق ومتصوف في محراب إبداعات هيكل، بل تستطيع أن تصفه رائد الهيكليين الجدد في الخارج، فما من كتاب كتبه هيكل او كٌتب عن هيكل إلا وهضمه هضماً، وزار جناح هيكل في مكتبة الإسكندرية باحثاً عن أسرار معشوقه حتى تماه فيه.
يحمل هيكل الدوبلي مفاتيح قصور الإبداعية، حتى هذا المقال التحليلي للدكتور حماد إبراهيم والذي نشرته الأهرام على حلقتين في ملحق الجمعة 22 سبتمبر و29 سبتمبر كان الاطلاع عله من خلال رسالة عبر الواتس آب من الزميل الدوبلي.
بدأت قصة الحديث عن هذا المقال منتصف الشهر الحالي حينما التقيت في الكونجرس العالمي للإعلام في أبوظبي الكاتب الصحفي الأستاذ كمال جاب الله مدير تحرير الأهرام سابقاً وأبرز الإعلاميين العرب العارفين بالشأن الياباني والكوري الجنوبي والشمالي، وله عدة إصدارات في هذا المجال غير مسبوقة.
ختاماً، يعد تناول هذا المقال ونشر روابطه ضرورة مهنية وفكرية واستحقاق للإعلام والمجتمع:
والثانية
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
In -t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر ولينكدإن لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية