في رحاب فلسطين، سقطت كلُّ مواويل الإنسانية، وذُبحت العروبة على أعتاب النذالة، وصِرنا بعروبتنا مُتعبين، مرأى الدماء مُستساغ، سمِعنا عن عمليات تُجرى عيانًا دون تخدير.. لا وقتَ إنها إبادة، ورأينا أسماءً تُكتب على الكفوف تحسبًا للشهادة.
«أبناؤهم موتى».. سمعنا آهات أبكت الأحجار الصلدة، وروّعت الصخور الصمّاء، وأحزنت الطيور على الأغصان.. ما بين أنين صغار، وصرخات ثكَالى تطوف في الأرجاء، وحروف عاتيات على شيوخ قد دنى أجلُهم.
أضحت غزّة سُرادق عزاء غاب عنه أولاد البلد وكأن المأتمَ أجنبي.. دماؤنا تغلي في العروق كغليان الماء في المِرجل، فقلب العرب ينزف، لم يعُد شيءٌ يُرعب العدو الصهيوني أو يُخجله.
مات شباب غزة أعِزّاء كما وُلدوا.. وفي حياتهم صنعوا تاريخًا جديدًا لا يعرِفُه الخونة والمتخاذلون، وقعوا ضحايا لغادِرٍ بلغ به الطغيانُ مَداه فاستباح دماءهم وترك جراحات حواها التراب وأخرى كَوَت القلوب.
في رحاب فلسطين – الأم التي لم تُنجب سوى الأبطال – تُضاء أكفان الصغار، ويزور الخراب ديار السلام، ويطول الشقاء أرض الرباط، في ربوعها تفوح رائحة الشهداء فتغار منها أغلى العطور.
وفي واقعة لعب فيها العدو دور القاضي النافذ حُكمه بالإعدام، اغتال أطفالًا بالمئات داخل مستشفى المعمداني، فسرق البسمة من وجوههم، وسلبهم حق الحياة من أرصفة الألم، أطلق قذيقته فأباد بها حُلم السلام والشفاء، وراح أبرياء كانوا لنا وقودًا حتى نفيق.
في المستشفى، مات الطبيب والمسعف والجريح، وتناثرت الأشلاء، وافترشت الدماء الأروقة، ولطّخت الحوائط.. وفي رحاب فلسطين وجدنا أطفالًا أداروا ظهرهم للدنيا قبل أن تُشرق شمس حياتهم، وأهالي تُساق إلى جحيم الفقدِ بغيرِ جُرم.
الأسى لم ينتهِ بعد.. فحال مستشفى المعمداني كان مُوجعًا قبل القذيفة بدقائق معدودات، ولكنّ العدو تفنّنَ في نسجِ النهاية من خيوط الألم، لا أُخفيكم سرًّا فقد وُلد الموقف من باطنِ الوجع.
المحتشدون بالمئات في الخارج.. بين أمٍ تصرخ على فقدان صغيرها حتى بُحّ صوتها، وأبٌ له من البنات ثلاث يقف باكيًا وجلًا خوفًا على إحداهن بالداخل، وها هي سيدة تفتّت قلبها، اعتصر ألمًا من مرارة فراق ابنها الكبير وتسأل الله النجاة للصغير من قذيفة العدو.
وهناك عجوز ضعيف نيّفَ على الستّين، افترش الشارعَ والتحف السماء بعدما ثقلت به قدمه أمام المستشفى يُمنّي نفسه بشفاء حفيده ووحيده الذي يعوله، وهنالك صغير انتحى جانبًا ينتظر دوره في الكشف وهو يرتعد ويرتعش، خيّمت سحابات الألم عليه، ونالت شظايا القذيفة من عضده.
كل هؤلاء جمعهم الانتظار حتى إشعار آخر!
ولكن حتى الانتظار سأمه العدو.. فقصف المستشفى، وانفطر قلب الأرض معها، وارتجّت السبع سموات من صوت القذيفة.
مشاهد مدوية اختصرت مآسي العالم من أرض غزّة، فإذا بدخان متصاعد يغطي السماء، ونار كالجحيم لا تُبقي ولا تذر، حرقت الأخضر واليابس، نالت من الداخل والخارج، ما هذا الوميض الدموي؟ إنها أرض المستشفى استحالت حمراء.
وبعدها وقعت كنيسة الروم بحي الزيتون ضمن حلقات مسلسل «مجرم حرب».. لا بأس فقد سقطت عن العدو الصهيوني آخرُ جدرانِ الحياء، ويبست فيه عروق الإنسانية، سرق الروح والأرض والتاريخ والمدامع، وأجاد التجديف في بحر الدم.
ولكن سيطلع الفجر مهما طال الليل ستهل بوادره وستشرق شمس النصر، وغدًا ستبرد نارنا وإن «غدًا لناظره قريب»..
السلامُ تحيّة يا أرضَ فلسطين!
للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية