نون والقلم

بين البراغماتية والالتزام

بعد انتهاء الحرب الباردة، بسقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، طغى الحديث عن نهاية عصر الأيديولوجيات، وبروز مرحلة يسود فيها قانون المنفعة، الذي يتوافق مع التطور العلمي، وتوافق النوع الإنساني على خيار سياسي واحد، هو الخيار الديمقراطي. وكانت تلك مبررات القول بنهاية التاريخ.
والواقع أن البراغماتية والأيديولوجيا صفتان ملازمتان لكل العصور. فليس صحيحاً أن للتاريخ نهاية، ولم يكن القول بانتصار نهج سياسي على ما عداه، وليد لحظة في التاريخ. فقبله قال ماكس فيبر بالعقلانية القانونية، باعتبارها نظام العالم. وقال ماركس بحتمية التحول التاريخي، ووصوله إلى نهايات، ينتصر فيها الجنس البشري على العبودية والاستغلال.
ذلك يعني أن الصراع بين البراغماتية والالتزام معبر عنه في توجهات أيديولوجية، هو صراع مستمر، ليست له نهاية. وجهه الآخر، هو الأزمة بين السياسي والمثقف. وهي أزمة تاريخية مستعصية. إنها أزمة بين الميكيافيلية والمثالية. بين براغماتية مفرطة تنبع من طبيعة الوظيفة التي يضطلع بها السياسي، وتعامل حر في فضاء مفتوح، لا تحكمه حسابات المنفعة.
يكتسب الفعل الملتزم وضعه، ليس من خلال تراكم الخبرة العلمية وحيازة الوعي، بل من خلال المسلك الأخلاقي. إن الموقف الأخلاقي والوعي، هما شرطان أساسيان لكي نطلق صفة الالتزام على المثقف. إذ لا يمكننا أن نتصور مثقفاً خارج دائرة التعبير عن وجدان الأمة. إنه الضمير المعبر عن أمال الأمة وآمالها، والمفترض فيه أن يسخر سلطته المعرفية لينير لها دروب نهضتها. تتعامل البراغماتية مع الحاضر، أما الملتزم فيتطلع بعقله وفكره نحو المستقبل. إنه يدرس الحاضر كي يستخلص منه موقفاً ورؤية جديدة يفترض فيها ألا تكون معزولة عن الواقع. وقد تحددت هذه الوظيفة للمثقف منذ القدم. تفاعل المثقف، في ملحمة جلجامش مع مجتمعه في حضارة بابل، فكانت النتيجة أن حفلت تلك الملحمة بصور ذلك التفاعل على مستويات كثيرة، مع الطبيعة والسلطة والأسرة. وتتجلى الحكمة الأبدية المعبرة عن الوجدان اليقظ الحي في طرح السؤال، «ماذا يجدي في قتل القلب»؟
وبالمثل، يسلط تاريخ الأدب في حضارة مصر القديمة، الضوء على علاقة المثقف بالمجتمع، وبالتالي موقفه من السلطة. لقد استقر في قلب المصريين أن سنوحي، الرمز المعبر عن دور الملتزم، هو الشجاع والصادق في مواجهة طغيان السلطة التي أرغمت البطل على الفرار إلى صحراء الجزيرة العربية أيام سنوسرت الأول خوفاً من بطش الحاكم، ولكنه عاد أخيراً إلى مصر، حين تحقق ميزان العدل.
وقد سجل التاريخ، في أسفاره حوادث كثيرة عن الصراع بين الالتزام والبراغماتية في مختلف الحضارات الإنسانية. حدثنا، على سبيل المثال، عن معاناة الفيلسوف اليوناني سقراط، وكيف فرض عليه أن يتجرع السم، لأن أطروحاته لم تتوافق مع رؤية الراعي للقانون الإغريقي.
ولم يكن نصيب حضارتنا العربية الإسلامية في هذا الشأن أقل من غيرها. حيث كانت الصراعات والفتن في بعض ظواهرها تعبيراً عن أزمات في الفكر، وخلل التوازن في المعادلة بين البراغماتية والالتزام. وقد أدت تلك الأزمات إلى بروز مذاهب فلسفية، كالمرجئة والمعتزلة والزيدية والأشعرية، إضافة إلى رؤى مذهبية متعددة وجدت لها مريدين على امتداد ساحة دولة الخلافة، مسهمة في تخصيب الفكر العربي الإسلامي وإثرائه.
وتحتفظ سجلات التاريخ العربي الإسلامي بنماذج متميزة تعكس طبيعة العلاقة بين البراغماتية والمثالية، لعل في المقدمة منها النهاية المحزنة التي وصل إليها الكاتب عبدالله بن المقفع، بعد أن وجه رسالة النصيحة للخليفة أبي جعفر المنصور. كما تحتفظ لنا تلك السجلات بمحنة الإمام أحمد بن حنبل مع الخليفة العباسي المأمون، التي دارت حول موضوع خلق القرآن الكريم. وكانت تلك الحادثة مثلاً فاضحاً على التناقض الحاد بين النظرية والممارسة، حيث باسم تقديس العقل، الحجر الأساس في الفكر المعتزلي، تم الزج بالإمام في السجن وجرى جلده بالسياط، وفرض حجر على طريقته في التفكير.
وتمثل سيرة الفيلسوف العربي، أبو الوليد المعروف بابن رشد، وإحراق مخطوطاته ومكتبته على يد الحاكم الموحدي، نموذجاً آخر عن هذه الأزمة. وكانت التهمة الرئيسية الموجهة إلى ابن رشد هي الاشتغال بعلوم الأوائل، ونقل فلسفة الإغريق إلى العربية.
ولعل في الإشارة إلى ما قام به المغول حين زحفوا على مدينة بغداد، وأغرقوا مكتبتها في نهر دجلة، توضيحاً لخشية الغازي من انتشار الأفكار. إن المواجهة هنا جماعية، بين غزو خارجي غاشم، وشعب يدافع عن وطنه، ويرى في ثقافاته دعامات أمان في تلك المواجهة، ومقاومات تحفر مسالكها بعمق في العقل والروح، تسهم بفعالية في تنشيط الذاكرة، وتشحذ روح المقاومة. إن الشعب المقاوم بأسره، في هذه الحالة، يتمثل دور الملتزم، في حين يمارس الغازي، في تخريبه للثقافة واعتدائه على الفكر، دور البراغماتي.

والنتيجة التي نخلص لها، أن البراغماتي بطبيعته ذو عقل محافظ، يخشى التغيير، لأن التغيير قد يحمل في رحمه إمكانية التعرض، بشكل مباشر، لمصالحه ومصادر قوته. إن الحاضر بالنسبة إليه معلوم، والمستقبل مجهول، وإذا كان بالإمكان التعايش مع الحاضر، والتعامل معه لكونه معلوماً، فإن المجهول هو بحكم المعدوم.
لا بأس إذاً، بالنسبة إلى البراغماتية، من التشبث بالمعلوم والقبول به، والابتعاد قدر الإمكان عن المغيب، لأن نتائجه غير مضمونة، وربما تحتاج، إلى حسابات جديدة، مهما تكن دقيقة فإن من غير الممكن التنبؤ بشكل مطلق بنتائجها، إذ من يضمن ألا تتعرض تلك الحسابات للرياح والأعاصير. وهكذا تقف البراغماتية، باستمرار في وجه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المتجهة إلى أمام. وحتى التغيرات العلمية التي تجرى من حولها في مختلف حقول المعرفة يجرى التعامل معها بحذر ورهبة.
لكن الفصل بين البراغماتية والالتزام، يبدو أمراً متعذراً، فالملتزم يحتاج إلى برنامج سياسي، لوضع أفكاره قيد التنفيذ، وحينها لن يكون بإمكانه تجاوز قانون المنفعة. وسيكون علينا متابعة هذا النقاش بالمزيد من القراءة والتحليل في الحديث القادم، بإذن الله.

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى