لم يكن يعلم أن اسمه سيكون ملء سمع الدنيا وبصرها وإن كان ابن أسيرٍ، وأنه سيكون حديث الناس كلهم وإن كان مطارداً ولسلطات الاحتلال مطلوباً، وأنهم سيحفظون اسمه رمزاً، وسيرون صورته بطلاً، وسيعرفون عمله مقاوماً، وسيتحدثون عنه طويلاً وسيقدرونه كثيراً، وأن وصيته المحدودة الكلمات العظيمة المعاني ستحفظ أمانةً وستتلى فرضاً، وستكون لمن بعده عهداً ووعداً، وأنه سيصبح للمقاومين مثالاً وللشبان نموذجاً، وأن الكثير من بعده سيحذون حذوه، وسيتشبهون به أو سيكونون مثله، وسيكونون على العدو وبالاً وعلى مستوطنيه لعنةً إلى أن يهزم وعن بلادنا يرحل.
كما لم يكن يعلم أن أمه من بعده ستكون مدرسةً للأمهات، ومعلمةً للأجيال، وملهمةً لأمهات الشهداء، وأن كلماتها في رثائه ووداعه ستكتب بماء الذهب، وستغدو للفلسطينيين سفراً ونبراساً، منها يتعلمون وبنورها يهتدون، وستبقى صورتها العظيمة التي رسمت ملامحها بكلماتٍ خالداتٍ إلى جانبه دوماً، يذكرها الفلسطينيون إذا ذكروا صبر الأمهات، وعظمة الفلسطينيات، وصمود المقاومات، فما من بيتٍ فلسطيني وربما عربي إلا ودخلته أم إبراهيم عزيزةً كريمةً، وأصبحت فيه وجهاً بالشموخ مألوفاً ولساناً بالعزة ناطقاً، إذ أعادت بكلماتها رسم صورة المرأة العربية الأبية الصابرة، الأصيلة المجيدة، المقاتلة الشجاعة، المضحية المعطاءة.
ظن إبراهيم النابلسي نفسه مغموراً لا يعرفه أحد، ومجهولاً لا يتهم به الناس، وعابراً سيطويه النسيان، ونسياً ستبليه عاديات الأيام، ولن يذكروه بعد استشهاده إلا قليلاً، ولكنه نسي أن الله عز وجل هو الذي يختار الشهداء من بيننا، وأنه سبحانه وتعالى ينتقيهم من بين عباده وينتخبهم من خلقه، وأنهم خير خلقه وأنبلهم، وأحبهم إليه بعد الأنبياء والرسل، ولعله سيكون لإبراهيم عند الله عز وجل وعند الناس بصموده وثباته، وبكلماته وإصراره شأنٌ عظيمٌ ومكانةٌ ساميةٌ، لا تبلى مع الأيام ولا تبهت، ولا تتراجع منزلته ولا يندثر أثره.
ففي مثل هذا اليوم من العام الماضي، كان الشهيد إبراهيم النابلسي يتحصن في أحد مباني البلدة القديمة بمدينة نابلس، الذي لجأ إليه بسلاحه، واحتمى فيه بنفسه، حاملاً بندقيته، ومستعداً بذخيرته، يتهيأ للمواجهة، ويوطن نفسه على الصمود والثبات، ويعدها بالنيل من العدو وإصابته، أو الفوز بالشهادة واللحاق بالركب الطاهر، وقد آثر المواجهة على الاستسلام، وأصر على الثبات رغم كثافة النيران، وصمد رغم لجوء العدو إلى قصف المبنى بالقذائف الصاروخية المضادة للدروع، إلا أنه استمر ممسكاً ببندقيته، وقاتل وهو يتحدث مع أمه ويخاطب شعبه، ويوصيهم بأن يتمسكوا بالبندقية، وألا يتخلوا عنها أو يفرطوا فيها، فهي الشرف وهي الكرامة، وهي التي تحمي وتصنع العزة، وهي التي يخشاها العدو ويخاف منها.
قد أغاظ إبراهيم النابلسي العدو حياً وشهيداً، وأرغم أنفه مطارداً، وأذل بزته العسكرية مقاتلاً، ولاحقته كلماته الخالدة شهيداً، فقد لاحقته الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أكثر من سنةٍ، وجهدت في البحث عنه طويلاً، وحاولت اغتياله وتصفيته مراراً، فهي تشهد له بالجرأة والشجاعة، والقوة والاقتحام، فقد استدرج قواتهم واصطاد جنودهم، واخترق هواتفهم وهدد ضباطهم، وانتفض لدماء غزة وانتصر لأبطالها، ونقل البندقية من نابلس إلى محيطها، ونظم المجموعات ودرب المقاتلين، وأقسم معهم والبندقية بين أيديهم على مواصلة المقاومة، والحفاظ على البندقية، وقد كان له ولإخوانه ما أرادوا.
وهاي أمه التي ذاع بصبرها صيتها وانتشر بكلماتها اسمها، تتابع مسيرته، وتسير على خطاه، تشحذ الهمم، وتحث الشعب على المقاومة، وتؤكد على وصية ابنها وتصر عليها، وتسبق الجميع إلى بيوت الشهداء، تواسي أمهاتهم، وتصبر عائلاتهم، وتحتضن أطفالهم، وترفع الروح المعنوية عاليةً لدى شعبهم، وتخاطب العدو محذرةً أن في فلسطين مثل ابنها آلافٌ يتبعهم آلافٌ، يحفظون الوصية، ويتمسكون بالهوية، ويواصلون المسيرة، وأنهم سينالون منه يوماً، وسيوجعونه ألماً، وسيجبرونه على العودة والانكفاء ندماً.
إبراهيم النابلسي الذي رفع الله بالشهادة قدره وأعلى مكانته، واحدٌ من جيل المقاومة الجديد، شابٌ يقظٌ غيورٌ، عنيدٌ صلبٌ جسورٌ، مقدامٌ مغامرٌ جريء، تحدى جنود الاحتلال ولاحقهم، وكمن لهم وقنصهم، وأعد الكمائن لهم وأوقعهم، وخاطب قادتهم وكبار ضباطهم وهددهم، ونجا مراراً من محاولات تصفيته، وأفشل العدو خلال ملاحقته، واستطاع رغم سنه اليافع وخبرته القصيرة أن ينسج للمقاومة أثواباً من نور وقصصاً من خيالٍ، يعتز بها الفلسطينيون ويفتخرون، فهذا ابنهم، بل واحدٌ من أبنائهم، الذين أقسموا على الله عز وجل إما النصر وإما الشهادة، وصدقوا ما عاهدوه عليه، فإن كان إبراهيم قد سبق ونال الشهادة وفاز بالجنة، فإن من بعده بإذن الله سيفرحون بنصر الله واستعادة الأرض وبناء الوطن وعودة الشعب ورفع الراية والعلم.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية