«ما ماتش.. فيه ناس بتعيش للأبد».. تَخْلُدُ ذكراها وتبقى حية متحدية الموت والرحيل !
قصدوا ذلك أو لم يقصدوا.. من قصد ذلك فلابد أنه بذل كل ما لديه من إمكانيات ليبقي بسيرته حيًا يتذكره الناس بأعماله. ومن لم يقصد فإنه حظىَّ بعمل استثنائي.. أو قيمة مختلفة في حياته، جعلته باقيًا في قلوب وذاكرة الناس، يعبرون عن لوعتهم وحزنهم عليه مثلما حدث مع محمد سليمان عامل البناء بدرجة مدير مدرسة، أو مدير مدرسة يعمل «فواعلي».. «بَنّا»، كعمل إضافي ليسد احتياجات أسرته الكائنة في محافظة المنيا !
«ما ماتش».. محمد سليمان أصيب بنوبة قلبية وهو في عمله الإضافي، يحمل الطوب والأسمنت ويرفعه مع العمال ليشيدوا طوابق جديدة للحياة، من دون أن يستنكف أو يتأفف أو يضيق بالعمل.
كان لديه هدف سامٍ وهو أن يساهم في تجهيز أثاث ابنته وهي «على وش جواز». ما أقسي ما نفعله بأنفسنا من أجل أولادنا.. نميت حياتنا ليعيش أطفالنا حياتهم. نحن هكذا خلافا لكل العالم.. في الدول الكبري والمتقدمة الأولاد إذا بلغوا الثامنة عشرة خرجوا من بيوت آبائهم وذهبوا ليشقوا طريقهم بكل الطرق والوسائل، لكن عندنا تبقي الأم مثلا مهتمة بأبنائها- رغم أنهم تزوجوا وفتحوا بيوتًا وكونوا أسرًا- حتى رحيلها عن الحياة.. وتسألها لماذا تفنين شبابك وهم يَحْيَّون؟ تقول لك: «ولادي غلابة وعلى الفطرة »!
نظل نقدم الرعاية وفروض المحبة لأولادنا حتى آخر العمر، دونما انتظار جزاء أو شكر، وقد تكون النتيجة مأساوية، كما صادفني مؤخرًا، عندما شاهدت فيديو أعده الإعلامي طوني خليفة تحدث فيه عن مأساة ثري عربي ظل يتفانى من أجل أسرته، ويحيط نفسه بها طوال حياته، ويلعب في افنية وغرف منزله، ويتحلق حول مائدته، خمسة عشرة فردًا أو أكثر منهم، ما بين أبناء وبنات وأحفاد، كانوا كل حياته.
أنفق عليهم كل ما يملك، فمنهم من يلبس من ديور ولانڤان، ومنهم من يتنزه في ديزني، أو يأكل من باريس، ومنهم من تبلغ فواتير الفيزا التي يسددها له أبوه آلاف الدولارات شهريا، وإذا به اليوم وبعد أن تركوه لحياتهم الجديدة التي صنعها لهم – ومنذ عشر سنوات تقريبا – لا يسألون عنه، فلا يتصل به أحد منهم ولو بالخطأ، ولا يسمع صوت أحدهم ولو في رسالة صوتية، وإذا راسله ابنه الأكبر لم يكتب له سوى كلمة واحدة: سلام! وإذا أهداه ابنه الأصغر شيئا فالهدية القادمة من أميركا 4 علب سجائر !
انفجرت دموع الفيس بوك حزنا على مدير المدرسة محمد سليمان، الذي رحل ثاني أيام عيد الأضحى إثر نوبة قلبية أثناء عمله الإضافي كفواعلي أو عامل بناء، ولم نعرف عنه أكثر منه كان مديرًا لمدرسة بالمنيا وقال تلاميذ إنه كان ينتهز فرصة الإجازات الرسمية للانخراط في هذه المهنة الشاقة، بالطبع لمواجهة تحديات الحياة!
القصة ليست جديدة، وسبق أن تنبأ بها الكاتبان سمير عوض وكاتيا ثابت في فيلم يحمل عنوان الأسطى المدير من إخراج شفيق شامية وممدوح الليثي منتجًا منفذا عام 1988، ولعب بطولته الفنان الكبير صلاح ذو الفقار وليلى طاهر، وبحسب قصة الفيلم فإن المدير الكبير حسنين (صلاح ذو الفقار) عاني وأسرته من متاعب مادية، بينما ابنتهم (ميرفت) يتقدم لها عريس من أسرة ثرية، وهنا المأزق الذي يجعل المدير يعمل «أسطى نقاش» وبالطبع تحدث مفارقات مذهلة.
شخصية حسنين في فيلم الأسطى المدير لاتزال باقية في الأذهان رغم مرور الأعوام من 1988 حتى 2023، حيث استدعيتها لذاكرتي للتو وأنا أكتب هذه السطور المضمخة بالحزن، ومثلما عاشت تلك الشخصية السينمائية ستعيش هذه الشخصية الواقعية المتفانية: محمد سليمان مدير المدرسة الفواعلي !
وليس غريبًا أن يعمل الناس في مهن إضافية غير مهنهم الأصلية، ففيلم سمير عوض وكاتيا ثابت وشفيق شامية ( الأسطى المدير) كان تقريبًا نبوءة في الثمانينات لما سيحدث في التسعينات والألفينات وما بعدها، نتيجة سياسات الانفتاح غير المدروسة التي انتهجت زمن السادات ومبارك.. واليوم تفاقمت الأمور، فقد لاحظ هاني منسي (وهو مدرس في الأصل وقاص موهوب لمع مؤخرا بموهبته القصصية) في جولته الخميس الماضي- نفس يوم وفاة مدير المدرسة – بمنطقة حدائق الزيتون أن حركة الأضحية ليست كسابق العهد بها، فآثار العملية من الذبح وإسالة الدماء والسلخ والتشفية وبالتالي عملية توزيع لحوم الأضاحي كانت أقل من مثيلتها في الأعوام السابقة!
الفكرة أكدها الإذاعي المرموق عمرو الشامي حينما كتب يقول: «اختفت تماما بنسبة مئة في المئة شوادر الخرفان اللي كانت بتتنصب قريب من بيتنا وكل شادر كان بيبقي فيه خمسين خروف على الأقل»!
ويقول الشاعر والصحفي والباحث في التاريخ السيد الخمار:
وتفضلي مدهشة وبلا خشا
ساعات قهرك ونصلك يحش الحشا
ناس تبات من غير عشا
وعيون الحق مدغششة
سرك خلاصك
في جوفك خلاصك
بس حراسك فاتوا ناسك للمسلخة!
هذا بعض ما يجري أيها الأصدقاء في مسلخة الحياة؟
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية