كنا قد أشرنا في مقالات سابقة وتطرقنا إلى الانتخابات التركية الأخيرة التي انتهت بفوز الرئيس رجب طيب أردوغان بفترة رئاسية جديدة تمتد إلى خمس سنوات وتبتدئ معها الجمهورية التركية المئوية الجدية منذ تأسيسها ولعل من أبرز الملفات الساخنة التي كانت حاضرة في هذه الانتخابات ملفي الاقتصاد والهجرة ومدي الارتباط بين هذين الموضعين، واليوم نستعرض في هذا المقال الوضع الاقتصادي وتحديدا التضخم الذي تعيشه تركيا في السنوات الأخيرة، الحقيقة أن موضوع التضخم ليس بالموضوع الجديد بل هو مصطلح اقتصادي تطرقت إليه الكثير من الكتابات الاقتصادية من أزل بعيد إلا أنه موضوع قديم متجدد.
دعونا أولاً نصنف التضخم الذي تعيشه تركيا هل هو خم اعتيادي وفق كما تعيشه معظم دول العالم في الفترة الحالية خاصة منذ جائحة كوفيد 19 وتعطل سلاسل الإنتاج والتوزيع مما أثر بشكل كبير على معظم الاقتصاديات العالمية مررا بالحرب الروسية الأوكرانية وما أفرزته من نقص كبير في عرض الحبوب والبترول والغذاء ومدي تأثر اقتصاديات العالم جميعها تلك الحرب وما أفرزته من موجات اللجوء ونقص في توريد الغذاء، هل تعني تركيا من تضخم مرتفع كما تعرفه الكثير من الأدبيات الاقتصادية وهل تساعد التشكيلة الأخيرة للحكومة التركية التي غلب عليها الطابع الاقتصادي في تشكيلها في إعادة الأمور الي نصابها وهل تتأثر معدلات التضخم الموجودة حاليا بالقرارات التي من المتوقع ان تتخذها الحكومة في الفترة القادمة كل تلك الأسئلة نحاول ان نجيب عليها في سياق هذا المقال.
دعونا أولا نستعرض وبشكل واضح الي مفهوم التضخم الذي يشير أن وبشكل عام زيادة مستوي الأسعار والسلع والخدمات في الاقتصاد مما يخفض بشكل واضح من القوة الشرائية للعملة المحلية، ومسببات ذلك تتنوع من زيادة الطلب على السلع والخدمات أو ارتفاع تكاليف الإنتاج بالإضافة إلى سود تطبيق السياسات النقدية والمالية في دولة ما وبتطبيق ذلك على حالة الجمهورية التركية نجد أن هناك طلب كبير على السلع والخدمات نتيجة لزيادة عدد السكان المحليين والقادمين إليها في الآونة الخيرة بالإضافة إلى مشكلة تركيا المتمثلة في عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات نظراً لاعتماد تركيا على مصادر الطاقة من الخارج مما يسبب عجز دائم في ميزان المدفوعات والميزان التجاري لها.
وقد تساعد الاكتشافات الأخيرة لحقول الطاقة في البحر الأسود في الآونة الاخيرة من تقليص الفجوة بين الطلب والعرض في مجال الطاقة والتي من المتوقع أن تدخل الخدمة خلال العام الخالي 2023 بالإضافة إلى توقع اكتشافات جديدة في منطقة البحر الأسود أو شرق البحر الأبيض المتوسط مما يقلل من الاعتماد على مشتقات الطاقة من الخارج بشكل يؤثر إيجابا على مشكلة التوازن بين الواردات والصادرات.
يعرف البعض التضخم السائد في تركيا بأنه تضخم مرتقع أو جامح إلا أنه لا يوجد تعريف دقيق لهذا المصطلح وإنما توجد خصائص وضعها معيار المحاسبة الدولي رقم 29 لتعريف الاقتصاديات ذات التضخم المرتفع وأهم تلك الخصائص وهي تفضيل المجتمع حفظ ثروته في أصول غير نقدية أو بعملات أجنبية مستقرة نسبياً وكذلك تفضيل المجتمع إلى تسعير السلع والخدمات المتداولة بعملة أخرى غير لعملة المحلية أو الوطنية وكذلك عندما تصل معدلات التضخم التراكمية خلال فترة 3 سنوات إلى ما يقارب 100% أو أكثر.
كانت الرؤية الاقتصادية خلال الفترات الزمنية الأخيرة دائما بالتركيز على خفض معدلات الفائدة إلى رقم آحادي تشجيعاً للعملية الإنتاجية وتحقيقاً لرؤية اقتصادية متوافقة وأحكام الشريعة الإسلامية بالابتعاد عن الربا والفائدة بشكل عام وكانت هنالك توصيات متعددة من خبراء عالميين في إبان الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت العالم في العام 2008 بضرورة فرض عدة بنود للتعاطي مع الأزمات المالية على مستوى العالم، وجاء في مقدمة تلك المقترحات تخفيض نسبة الفائدة إلى الصفر، وهو ما يتطابق تماماً مع إلغاء الربا في النظام المالي الإسلامي، وهو ما عملت عليه تركيا في السنوات الخمس الأخير الآن ذلك لم يساهم في تخفيف حدة التضخم بل إن مستويات التضخم فيها زادت بشكل كبير وصلت إلى حدود مستويات غير مسبوقة إلى حوالي 39% .
حاولت الحكومة معالجة ذلك من خلال رفع متتالي للحد الأدنى من الأجور الآن ذلك الحل لم يكن كافيا لتحقيق العودة إلى مستويات معقولة للشراء بل وفي رايي قد فاقم من المشكلة من خلال زيادة الكتلة النقدية في ايدي المشتريين مما ساهم في ارتفاع أسعار والخدمات بشكل أو بآخر، بالإضافة إلى العمل على تخفيض سعر الفائدة إلى حوالي 8% في حين أن أسعار الفائدة للإيداع والاقتراض من قبل البنوك العاملة أضعاف ذلك المؤشر بنسب تصل إلى حوالي 25-30% مما أدي إلى وجود تشوه في هيكل الاقتصاد التركي من جود قرق شاسع بين النسبة التي يعلنها البنك المركزي التركي وبين ما تقدمه البنوك التجارية لعملائها من فوائد .
كان ذلك الملف من الملفات الشائكة خلال فترة الانتخابات الأخيرة وما قبلها خلال التحضير لفترة الانتخابات وما بعدها وكانت أبرز الوعود الانتخابية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الوعد بالغلب على مشكلة التضخم وزيادة الحد الأدنى من الأجور مرة أخرى قبل نهاية العام الحالي والتغلب على مشكلة الإيجارات وأسعار العقارات بشكل كبير من خلال إصدار تشريعات جديدة تحارب ظاهرة المغالاة في ارتفاع أسعار الإيجارات السكنية والمكتبية في عموم الجمهورية التركية، لذلك ان الناظر إلى التشكيلة الحكومية الأخيرة بعد الانتخابات يلاحظ عليها التركيز بشكل كبير على الجانب الاقتصادي والتغلب على المشاكل الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد التركي من خلال وجود خبير اقتصادي كبير كالسيد جودت يلماز كنائب للرئيس وعودة السيد شمشيك كوزير للمالية بالإضافة إلى تعيين السيدة حفيظة أركان كمحافظ للبنك المركزي التركي.
كل تلك التعيينات تشير وبوضوح إلى رغبة الرئاسة التركية إلى حل جذري للمشكلة الاقتصادية التي تعاني منها تركيا ولعل تصريحات وزير المالية الجديد وقبوله داخلياً وخارجياً تأتي في هذ السياق حيث ذكر في تصريحاته إلى أنه يعمل على بناء فريق اقتصادي متكامل وتقديم برنامج وسياسات اقتصادية تحوز على ثقة المجتمع الداخلي والخارجي ونيل ثقة المستثمرين، ويترقب الجميع اجتماع لجنة السياسات النقدية للبنك المركزي التركي في آواخر هذا الشهر لمعرفة التوجهات الحكومية الجديدة لمعالجة والحد من آثار التضخم ولعل ما رشح من أخبار عن نيتها رفع نسب الفائدة من 8،5% الي ما يقارب 17-20% هو عودة طوعية للسياسة النقدية التقليدية المتمثلة في تفعيل أدوات السياسة النقدية لمحاربة التضخم ويأتي في مقدمتها استخدام رفع سعر الفائدة لتكون ضمن المعدلات الطبيعية والمنطقية بالإضافة إلى وجود توقع بنية الحكومة بإجراء إصلاحات هيكلية حقيقية في الاقتصاد.
ولعل القبول العام بنتيجة الانتخابات الأخيرة قد يعد من أهم العوامل لنجاح الإصلاحات القادمة حيث تعيش الدولة حالة من الاستقرار السياسي الذي بلا شك سينعكس ايجاباً على الوضع الاقتصادي للجمهورية، قد يقول الكثيرون ان ذلك يخالف وجهة نظر الرئيس اردوغان الذي قال لم اغير وجهة نظري بخصوص أسعار الفائدة وانما وافقت على رؤية وزير المالية الجديد لاتخاذ الخطوات سريعاً بالتعاون مع البنك المركزي التركي لإعادة وخفض التضخم الي خانة الآحاد ، فهل يتعرض ذلك والرؤية الكلاسيكية لمكافحة التضخم المتمثل في استخدام أدوات السياسة النقدية وفي مقدمتها زيادة أسعار الفائدة ، بلا شك الإجابة نعم ، فالاعتماد على فقط أدوات السياسة النقدية والمالية قد ينجز بعض الحلول المؤقتة إلى تؤدي إلى تراجع مستويات التضخم.
ولكن يجب الانتباه جيدا ان التضخم في الإسلام يعتمد بشكل كبير علي تشجيع الإنتاج والاستثمار الحقيقي في توليد أصول وقيمة مضافة للاقتصاد القومي ومحاربة الظواهر السالبة كالاستثمارات غير الحقيقية وغير المستدامة وتحقيق العدالة الاقتصادية فسعر الفائدة او الربا هي واحدة من المسائل الاقتصادية في المرجعيات الاقتصادية الإسلامية التي جاءت فيها العديد من النصوص بحرمتها لأنها تتعرض مع مبادئ العدل والتوازن الاقتصادي وتحقيق الاستقرار ويضمن التوازن بين الطلب والعرض.
تركيا تستطيع أن تنوع في اقتصادها وان تعتمد بشكل كبير على الاقتصاد الحقيقي المتمثل في زيادة الإنتاج والصادرات وتشجيع الاستثمارات الحقيقية من خلال إتاحة الفرصة للبنوك التشاركية الموجودة حالياً وتفعيل أدوات الاقتصاد الإسلامي المعتمد علي الأصول وليس المضاربات فتركيا مؤهلة لذلك من خلال موقعها الجغرافي الرابط بين العديد من دول العالم، بالإضافة إلى تميزها في العديد من القطاعات الإنتاجية والخدمية الحقيقية التي تستطيع من خلال الموازنة بين أدوات السياسة النقدية والمالية التقليدية وأدوات الاقتصاد الإسلامية من بناء اقتصاد قوي قادر على التغلب على جميع المشكلات الهيكلية التي يواجهها.
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية