نون والقلم

ما بعد تدمير سوريا

لا يحتاج المرء إلى معلومات سرية أو تقارير مخابرات ليتمكن من قراءة خريطة الصراع الدائر حالياً في سوريا، ويحلل مفرداتها وصولاً إلى استنتاجات منطقية تستند على الحقائق المعروفة للجميع.
الحقيقة الأهم التي تتبدى بوضوح، حتى وإن توارت أحياناً في زحمة الأحداث وصخبها، هي أن الولايات المتحدة لم تكن جادة قط في القضاء على تنظيم «داعش». لو أرادت لأمكنها تدميره أو على الأقل إضعافه تماماً بمساعدة عشرات الدول التي حشدتها لهذا الغرض. كان ذلك ممكناً في بضعة أسابيع كما فعلت مع «طالبان» أو «القاعدة» في أفغانستان.
ظلت واشنطن تردد أن تدمير «داعش» يحتاج إلى سنوات، حددها بعضهم بخمس وقدرها آخرون بعشرين. ولم تعلن تفاصيل استراتيجية محددة وواضحة لتدميره.
بنفس القدر لم تكن واشنطن جادة في أي وقت من الأوقات في القضاء على نظام الأسد، لا بنفسها ولا عبر وكلائها الذين تدعمهم. لو شاءت لجعلت مصيره مثل صدام الذي أنهت نظامه في أسابيع قليلة. واتتها الفرصة لتفعل ذلك عندما تجاوز الخطوط الحمراء التي حددتها باستخدامه الأسلحة الكيماوية ضد المعارضة، إلا أنها تراجعت عن تهديدها بالتدخل. وقدمت روسيا لها مخرجاً يرفع عنها الحرج بصفقة التخلص من الأسلحة الكيماوية.
لم تعط واشنطن الفرصة أيضاً للمعارضة للإطاحة بالأسد. ظلت تقدم لها العتاد العسكري بحدود محسوبة بدقة لا تمكنها من تحقيق نصر حاسم على النظام. وتجاهلت دعوات الحلفاء لزيادة دعمها وتزويدها بأسلحة حديثة. كما رفضت إلحاح تركيا على فرض منطقة حظر طيران، أو مناطق آمنة في سوريا وهو ما كان سيضمن غلّ يد النظام، ويتيح للمعارضة مجالاً للحشد والتدريب وشن هجمات أكثر فاعلية.
ما يمكن أن نستنتجه من هذه الحقائق المعروفة للجميع هو أن ما تسعى إليه واشنطن بالفعل هو بقاء الأسد لأطول مدة ممكنة، وبالتالي إطالة أمد الحرب. أما لماذا تريد هذا الخيار الشيطاني، فلأن هناك عدة أهداف استراتيجية وتكتيكية ستحققها من وراء ذلك.
الهدف الأول هو استنزاف القدرات المادية والبشرية لأهم حليفين لنظام الأسد، أي إيران و«حزب الله».
اما لهدف الاستراتيجي الآخر لإطالة أمد الحرب هو ضمان تمزيق سوريا تمزيقاً حقيقياً يصعب معه التئام الدولة بشكلها السابق مرة أخرى. كل يوم يمر تتعمق الشروخ الطائفية والعرقية والدينية والقومية في بنية المجتمع السوري، وتصبح إعادة التواصل بين أركان ومكونات الدولة أكثر صعوبة. الحرب الطويلة والدماء المراقة تسهلان هذا الهدف، وتعينان على إقامة «مناطق نقية» أي ذات كتل سكانية مختارة على أساس عرقي أو طائفي أو ديني. النتيجة النهائية لهذا الفرز الديمغرافي تقسيم سوريا واقعياً حتى لو لم يعلن ذلك رسمياً.
هذه الوصفة أيضاً مجربة والعراق أحدث نماذجها حيث الكيان الكردي في الشمال أصبح دولة مستقلة بالفعل من دون أن يعلن ذلك رسمياً. كما تقدم البوسنة تجسيداً كلاسيكياً لهذه التجربة الأليمة في تمزيق الشعوب وتفتيت الدول.
وليست مسألة نزوح اللاجئين السوريين إلا إحدى آليات تنفيذ هذا السيناريو كما تم بالضبط في البوسنة. المطلوب أو ما يحدث بالفعل هو إخلاء مناطق بالكامل إما بسبب استحالة العيش الآمن فيها أو من خلال تطهير عرقي وحشي. بعد ذلك يتم إعادة توزيع الكتل السكانية على أساس عرقي أو طائفي أو قومي.
ما يجري ليس محض مصادفة وله أصل معلن في التفكير السياسي الأمريكي. وهناك دراسة مهمة صادرة عن مركز بروكنغز الأمريكي للأبحاث السياسية في يونيو/‏حزيران الماضي بعنوان «تفتيت سوريا: استراتيجية جديدة لأكثر حرب أمريكية بلا أمل». حددت الدراسة أربعة سبل لتفتيت سوريا، أولها إنشاء مناطق آمنة، وبالطبع هذه ستكون مهمة لإعادة توطين اللاجئين بعد فرزهم، ثم احتلال وغزو الأراضي السورية بقوات أمريكية أوروبية عربية مشتركة. والسبيل الثالث هو تخفيف القيود في التعامل مع من تعتبرهم واشنطن إرهابيين لتسهيل مهمتها. وأخيراً اعتبار القضاء على النظام وليس «داعش» هو الأولوية.
السؤال البديهي هنا سيكون عن التطور الأخير المتمثل في التدخل الروسي. والرد المباشر هو أن هذا التدخل لا يمثل في الواقع أي تهديد للخطة الأمريكية ولا يعرقلها بل إن العكس هو الصحيح. ويلاحظ في هذا الشأن نغمة المعارضة المعتدلة التي قابلت بها الولايات المتحدة التدخل الروسي. فلم تعلُ نبرتها أو تتطور إلى عقوبات كما حدث في حالة أوكرانيا مثلاً.
العمليات الروسية ضد «داعش» أو غيره من شأنها أن تبقي جذوة الحرب مشتعلة أي ما تريده واشنطن بالضبط، والتي تعلم أن الروس لا يهمهم في النهاية سوى الحفاظ على مصالحهم في سوريا وأهمها قاعدتهم البحرية في طرطوس. بل قد يكون وجودهم مفيداً عندما يحين وقت تقسيم سوريا نهائياً، حيث سيتكفلون بحماية الدويلة أو الكيان العلوي.
قدر سوريا الحزين أن الجميع في داخلها وخارجها يصرون على تدميرها.

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى