إنّ الحركة ضرورة حتمية للكون، فلو أنّ الشيء لا يحتوي على الفعلية والقوة لما استمرت الحركة، ولو نفذ الإمكان لم يبق في الشيء طاقة و لأنتهى عمر الحركة وبهذا يفنى العالم، إذًا هو دائم الحركة ومع انتفاء الحركة ينتفي الكون.
وأنّ الحركة المكانية الغير إرادية للأجسام المادية الغير حية تتفرع بدورها إلى حركة طبيعية، وقسريّة لأنّها تَظهر بمقتضى طبيعة الشيء، أو نتيجةً لقوةٍ قاسرة، وأنّ الحركةَ دائمةٌ في الموجودات المادية بحكم القوى والاستعدادات المودعة فيها .
بمعنى أنّ حركة الأفلاك والأرض وكُلّ ما يتعلق بها كجزء مِن هذا الكون العظيم هي حركة إمّا طبيعية أو قسريّة، حيث أنه يكون إمّا بمقتضى الطبع أو بسبب قاسر مِن الخارج، ولا ضرورة لحركة إرادية مِن قبل الفاعل الإلهي، حيث أودع النظام السببي في الكون فاصبحت تجري بمقتضى طبعها وأحياناً قد تحدث حركة ما خارجة عن طبعها نتيجة تأثير قاسر من الخارج .
والحركة بمفهومها العام ليس لها وجوداً مُستقلاً عن منشأ انتزاعها حتى يصبح مِن الضروري ان يكون لها فاعل مفيض للوجود فهي جزء مِن نظام سببي وليست وجود مستقل حتى تقتضي الحاجة لوجود فاعل مانح خاص بها.
والفاعل الطبيعي هو ليس مُوجِداً ولا مانحاً للوجود، بل لازم للحركات العرضية وهو مختص بالظواهر المادية التي لها ميزة التغير والتحول والحركة .
وأن الطبيعة هي مبدأ الفاعلية لحركة الاجسام إذ أنّ لكل حركة مبدأ فأما أن يكون مِن خواصِ طبيعة الجسم أو أن يظهر بواسطة تأثير طبيعة أخرى فيه.
بمعنى آخر أنّ حركة الاجسام هي أحدى حالتين فإمّا أن تكون مِن مقتضى طبيعة الموجود المتحرك ما لم يوجد مانع فإنها تستمر ، وإمّا أن يكون ذات الموجود المتحرك لا أقتضاء لها للحركة وإنما هي تحقق نتيجة لعامل خارجي.
فالحركة إمّا أن تكون مقتضى ذات الموجود المتحرك وإمّا أن تحصل نتيجة عامل خارجي ولابد حينئذ أن تنتهي الى عامل يقتضي الحركة ذاتاً .
وأن الفاعل القريب وبلا واسطة لجميع الحركات هو الطبيعة وأي حركة لا يمكن نسبها بصورة مباشرة إلى الفعل المجرد .
والحركة الجوهرية عين وجود الجوهر ولا تحتاج إلا إلى فاعل الهي مانح للوجود، وإيجاد الجوهر هو بعينه ايجاد الحركة الجوهرية، إلا أنّ إيجاد الجوهر ليس عين ايجاد الاعراض و الحركات العرضية، ولهذا السبب تُنسب إلى الطبيعة الجوهرية وتعتبر فعلا لها.
إذاً أن حركة الكون بتجددها وسكونها القهري وانتقالها من حد الى حد لا يتطلب أن تكون لتلك القوة العليا ذات الارادة و القصد أرادة مُتجددة ؛ بمعنى أن المفترض لتلك القوة ذات الارادة بعلمها الازلي انها عقلت الضرورة لتجدد الحركة وقد أودعتها في النظام الكوني دون الحاجة لتجدد معقولاتها و إرادتها .
وأنّ تجدد المعقولات والإرادة للفاعل الغائي، والتي تؤثر في تجدد الحركة هو دليل العجز وعدم القدرة المطلقة، إذ يفترض أن تلك القوة العاقلة الغائية ذات القصد قد عقلت الحركة الكلية لمجرى الكون وهي تريدها وقد عقلت انتقالها من حد الى حد وقد اخذت تلك الحركات وحدودها بنوع معقول منذ النشأة الاولى .
وأنّ حاجتها لتجدد حركة الكون وفقاً لتجدد معقولاتها دليل الضعف والعجز وهذا يتنافى مع عقيدتنا الفلسفية اتجاه القوة العاقلة التي تحكم الكون بإرادتها وقدرتها المطلقة وعلمها الازلي، وهذا لا يتناسب ولا يليق بعظيم عقلانيتها وتدبيرها وازلية علمها .
والتصورات النفسانية تتجدد في النفس الإنسانية ولكن لا يمكن تصور تجددها عند الفاعل الغائي لأنه ليس جوهر نفساني، كما لا يمكن أن نتصور تجدد المعقولات عنده .
فلو قلنا أنّ طبقات الأرض قد تحركت و أحدثت الزلزال نتيجة مبدأ الفعل الصادر مِن الفاعل المريد والعالم بفعله؛ يتفرع استفهام حول حقيقة الملاك المقتضي لتحقق مبدأ الفعل للعلة الفاعلة؟
فإذا كانت الضابطة بلحاظ ملاك الفاعل الغائي هو نزول العذاب ( لوجود الذنوب والمعاصي والكفر ) وجب أن نتحرى عن ماهية هذا المُدعى من أجل إثبات صحة الضابطة الآنف ذكرها أو نفيها وبموجب هذا فنحن بحاجة الى ( ضابطة قبلية ) وعلى اساسها يمكن أن نميز ما إذا كان الزلزال هو عقاب أو هو حركة الصورة النوعية بمقتضى الطبع .
فاذا كانت الضابطة هي ” حدوث الكوارث لغرض العذاب ” أي لمقتضى العذاب وهو الكفر وأرتكاب الفواحش؛ نوجه البوصلة باتجاه الموضوع ونشير لثلاثة احتمالات .
الاحتمال الأول – إذا كان عموم المتضررين لمقتضى الضابطة هم أهل الايمان والتوحيد بينما أهل الكفر والموبقات في خير منعمين، فإذا كان هذا تجسيداً لغضب الإله بحسب المُدعى، فسيتخذ البعض من هذا تلميحاً بعدم عدالته تعالى، وسواء كان منشأ المُدعى الجهل بعظيم رحمته وعدالته أو لتدليس الحقيقة، فالثابت أن مقتضى الربوبية هو الرحمة والعدالة وهذه الفرضية تُخالف الاصل .
الاحتمال الثاني – وإذا كانت الضابطة ذاتها توجه بوصلتنا كرة آخرى بإتجاه الموضوع، فإذا كان بعض المتضررين مَن هم خارج مقتضى الضابطة ( كالاطفال والبعض الصالح من البشر ) فسيكون ظلماً من الإله اتجاه عباده وخلافاً لمفهوم العدالة الالهية والرحمة واللطف المتصفة بها ذاته .
الاحتمال الثالث – وإذا كانت الضابطة ذاتها وهي اقتضاء تحقق العذاب كجزاء، يكون خلافاً للحكمة الالهية، إذ لو آخذَ عباده على ذنوبهم وكفرهم لما بقيت دابة على الارض ! ولما كان الإله عالماً بحقيقة خلقه قبل الخلق ومعلوم لديه منذ الازل، لكان من الحكمة عدم خلقهم أو التدخل لهدايتهم؛ إذ لا معنى أنه يعلم مُسبقاً بضلالتهم ويخلقهم وينتظر أن يذنبوا حتى يُنجز العقاب عليهم في الدنيا، فالحكمة تقتضي إما أن لا يخلقهم حتى لا يُفسدوا ويذنبوا أو يخلقهم فيهديهم الى سواء السبيل أو يخلقهم و يتركهم يقرروا سبيلهم بعد بيان الحجة وتنجيزها ويمهلهم لأجل مسمى حتى يسقط حق العبد في الاعتراض وإتماماً لمقتضيات العدالة وبما يليق به من صفات العدالة والرحمة و الحكمة.
وبهذا تنتفي الضابطة المشار إليها سلفاً ولا يبقى مورداً لتحققها؛ فيتعين أن ما حدث هو بمقتضى الطبيعة الخاصة بحركة طبقات الارض وصورتها النوعية وليست صادرة من الفاعل العاقل المريد والعالم بفعله بتأثير مباشر، إنما بفعل الفاعل القريب بمقتضى الطبع أو بسبب قاسر من الخارج، فما حدث لا يتعدى كونه من الحركة الطبيعية أو الحركة القسرية .
وكل الاجسام الموجودة في الخارج ذات آثار وأفعال متغايرة، ولابد لكل واحد منها سبباً خاصاً به، ولكل فعل مبدأ جوهري يكون فيه هو المؤثر والفاعل والمقتضي و منشأ هذه الآثار هو الصورة النوعية الجوهرية.
والمانح للصورة النوعية لا يمكن أن يكون أمراً مادياً لأن المادة عادة لا تعطي وجود الشيء بل تعطي حركة الشيء وحركة الشيء غير وجود الشيء؛ فالمادة هي الفاعل الطبيعي الذي يعطي الحركة لا الوجود، أما المُوجد فهو الفاعل الغائي، فليس من الممكن أن المادة الضعيفة تكون علة للمجرد الاقوى منها .
اذاً الضعيف لا يمكن ان يكون علة لمن هو أقوى منه و مفيض للصورة العلمية وان المُوجد للصورة العلمية أو مفيضها هو أمر مجرد من المادة ومنزه عن القوة و الامكان وأعلى من النفس وهو العقل المجرد.
لا غائية للموجودات المادية الغير حية في حركتها، وإن سلب الغائية عنها لا يقتضي مباشرة الفاعل الإلهي لإدارة حركة الكون إرادياً، حيث يكفي أنه قد أودع نظاماً متكاملاً دقيقاً يقوم بتسيير حركة الموجودات المادية، كما أن نفي الغائية عن الموجودات الطبيعية لا يستلزم أن حدوث حركتها صدفة، إذ أن الموجودات الغير عاقلة والغير حية بالرغم من أستحالة أن تكون لها غائية؛ و لكنه ليس مبرراً لنفي وجود ” فاعل عاقل غائي مُدبر ” لهذا الكون ومُوجد لقانون سببي يقف خلف حركة الموجودات وسائر الظواهر الطبيعية .
إذا لا عقلانية في إنكار ضرورة وجود فاعل غائي أسبق لعملية التركيب بين المادة والصورة وإيجاد المادة واخراجها من العدم؛ كما قد أقتضت حكمة هذا الفاعل الغائي أن تجري مقادير الكون ضمن قوانين مودعة فيه من قبله، وأن لا ضرورة بالفعل لإدارة حركة الأكوان من قبل العلة الفاعلة مباشرة .
وبعد أن ثبت عدم تمامية الضابطة الاولى نطرح الآن ضابطة أخرى قد يثيرها البعض وهي ( حدوث الكوارث لغرض التنبيه ) والكلام في عدة احتمالات.
الاحتمال الاول – إذا كان الزلزال نتيجته الهلاك التام فينتفي مفهوم التنبيه لأنتفاء موضوعه وهو ” الانسان الهالك ” إذ سيكون قد هلك حينها فلا وجود لمورد التنبيه حتى تُأخذ العظة والعبرة.
الاحتمال الثاني – ليس من الحكمة أن يحل العذاب الذي غرضه التنبيه من أجل تحقق العظة والعبرة، حين لا يتحقق شيء من ذلك مع أن الخالق عالم ازلي.
أن الله عالم بأن ما سيقوم به لن يكون سبباً لتوبة الظالم وهو القائل تعالى: ( وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ) الانفال ٢٣
فإذا كان يعلم بعدم تحقق الثمرة فما هو مورد التنبيه هنا، وهذا سيكون تفويتاً للغرض وخلافاً للحكمة واذا كان يعلم بعدم تحقق المراد سيكون حلول العذاب بمثابة العبث الفاقد للحكمة .
ولما كانت نسبة تحقق الحكمة الإلهية وغرضها من هذه الكوارث شيئاً ضئيلاً جداً أو منعدماً، فهل يُعقل أنّ الله بعلمه الأزلي صاحب المشيئة ان يُحْدث أمراً لا تتحقق من خلاله غايته وتكون بمثابة العبث؟!!!! وهل تليق به العبثية ؟! فليس من الحكمة جريان العذاب بغرض التنبيه لأخذ العظة والعبرة لعدة اسباب .
الاحتمال الثالث – ليس مِن الحكمة هلاك العبد الصالح أو الانسان الغير مستحق للعقاب لغرض تنبيه من هو مستحق للعقاب، حيث سيكون خلافا للعدالة الالهية خاصة مع عدم تحقق العظة عند الظالم المستحق للعقاب، فيكون تفريطاً للغرض وظلماً للعباد وهذا ما لا يليق بالخالق .
فالعذاب إما يكون غرضه هلاك الظالم الجاحد به تعالى والذي أفسد بالارض أو لا معنى لحلوله في سائر الخلق الموحدين والمؤمنين به .
الاحتمال الرابع – هل الأصل في الحكمة الالهية مؤاخذة الخلق على موبقاتهم وحلول العذاب أم الاصل ترك الخلق ليُقرروا مصائرهم وسلوكهم ويؤجل حسابهم الى أجل مسمى، إذ أنه لو شاء بحكمته معاقبة مرتكبي الذنوب والمعاصي لما أبقى أحداً من عباده على وجه الارض.
قال تعالى ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍۢ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى ) النحل ٦١
قال تعالى ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍۢ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى ) فاطر ٤٥
وبهذا تنتفي الضابطة الثانية ولا يبقى مورداً لتحققها، فيتعين أن ما حدث هو بمقتضى الطبع الخاص بحركة طبقات الارض و صورتها النوعية وليست صادرة من الفاعل العاقل المريد والعالم بفعله بتأثير مباشر، إنما بفعل الفاعل القريب بمقتضى الطبع، فما حدث لا يتعدى كونه من الحركة الطبيعية أو الحركة القسرية .
وأن الذي يمنح الحركة ويودعها في موضوعها، هو الفاعل الالهي الموجد للموضوع والحركة؛ والنظام السببي الذي أودعه في الموضوعات هو الفاعل الطبيعي و المحرك القريب لها لأنه من العلل الإعدادية فهو مختص بالظواهر المادية.
ومما يُثبت أن الفاعل الطبيعي هو المحرك للموجودات المادية هو الزمان مُتعلق حركة الموجود ذات القوى والاستعداد و التي على أثرها يتغير من القوة الى الفعل ومن ثم الحركة و بالتالي الزمان، وهو الزمن الذي يستغرقه الموجود في تغيره وحركته بفعل سيره من القوة الى الفعل وأن الفاعل الإلهي فوق الزمان؛ فلا يصدق أن حركة طبقات الأرض التي تسببت بزلزال ما هي بفعل الفاعل الإلهي.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية