نون لايت

صور.. ملتقى الشربيني الثقافي يدفئ برودة شبين القناطر بأمسية ثقافية

أشاع ملتقى الشربيني الثقافي بدفئه ليلة كانت شتوية بامتياز.. درجة الحرارة فيها انخفضت إلى أدنى مستوياتها خارج الملتقى، ولكنها بلغت ذروة دفئها وحميميتها داخله، حيث  كان عامرًا بالمبدعين ، من شعراء فصحي وعامية ونقاد وكتاب وصحفيين ..وضيوف من الاتجاهات كافة .. تحولت أحاديثهم ونقاشاتهم إلى مايشبه مدفأة الغرفة.. من فرط الحميمية والحيوية والسخونة .آراء بالجملة وانتقادات وجيهة متلاطمة ، وسرد ورؤي معرفية بالقضية التي يناقشها الملتقي ، تجعل شعاره “شمعة تقاوم العتمة ” .. دومًا قابلًا للتحقق. قاد مناقشاتها مؤسس الملتقى ومديره الكاتب الصحفي محمود الشربيني .

التقى الحضور مسعود شومان الشاعر والباحث  ( رئيس الادارة المركزية للشئون الثقافية بهيئة قصور الثقافة ) ود. محمد السيد اسماعيل الشاعر والناقد ، ومحمد فوزي حمزة شاعر الفصحى  والمدقق في التراث و يسري عبد السلام الروائي  والكاتب الصحفي مجدي صالح والشعراء مجدي ابو الخير ومحمد عبد العزيز وشوقي  نسيم والسيد صبره وسامي خليفة و محمد الريس مسئول اداري نادي أدب شبين القناطر والاستاذ محمد لمعي رئيس مجلس ادارة  نادي طحانوب الرياضي وعدد من موظفي وزارة الثقافة بالقليوبية .كل هؤلاء حلوا ضيوفًا على ملتقى الشربيني الثقافي ،  ليكونوا في استقبال الكاتب الصحفي الكبير اسامة الرحيمي رئيس القسم الثقافي بجريدة الأهرام. ومؤلف كتاب (سفر في الحقيقة ) «طباطيب العبر» ..والذي وصفه شومان بأنه ثلاثة في كتاب واحد مؤكدا أن المؤلف – الرحيمي -ظلم كتابه بضخامته تلك ، بدلا من أن يقسم كل كتاب على حده  . وكانت مفارقة مدهشة أن المؤلف كشف أنه اكتفى بهذا القدر من مادة الكتاب -قصص أهل الدراكسة ومعاناتهم وقهرهم وعبوديتهم وذلهم أمام الإقطاعيين  – لأن المادة التى جمعها عنهم تؤلف ثلاثة كتب من نفس حجم كتابه ،الذي يقع  في أكثر من خمسمائة صفحة .

مواقفه وكتاباته تشبهه

وفي تقديمة للكاتب أسامة الرحيمي وكتابه طباطيب العبر تحدث الكاتب الصحفي محمود الشربيني مؤسس الملتقى فقال: كنا عائدين للتو -انا وأسامة – سيرًا على أقدامنا ، من احدي الندوات  ، وبرغم أننا نشبه بعضنا في “قراءة وجوه البشر” – تلك الحكمة التي  تتعلمها الأجيال من يحيى حقي – فإن الرحيمي – رغم لحظات إظلام أرخت سدولها وراحت تسكنُ الشارع  ،وتلقي بظلالها على وجوه المارة فلا يبين منها شيء – انتبهَ فجأة لصبي ناحل الجسد ،تكاد رياح الهواء الخفيفة التي تداعب اجسادنا في الشارع ان تفترسه وتجعل جسده يبدو أشبه بخرقه من شدة الارتجاف.. بحث عنه – الرحيمي- بعينان لاهثتان كي يمنحه نقودًا! زاغت عيناه هنا وهناك كمن فقد طفله ! الصبي الذي يبحث عنه بدى لي يافعا وقادرًا عكس ما لاحظه هو بطرفة عين ، فلما راجعته  في موقفه منه قائلا له : قد يكون مدمنا فلا تضق نفسًا أو تهم بمساعدته ..وقد  يكون في ذلك إيذاء له .

لكنه رد على ملاحظتي بمنطق إنساني آخر .. شدد على أن «ارتجافته» تلك ربما كان سببها تعرضه لفقدان -سرقة -بعض أعضائه البشرية !اذهلتني المعلومة ..تساءلت: أيبالغ اسامة الرحيمي في حديثه ؟.

الحقيقة أن موقفه يشبهه.. تماما مثل كتابته.. لذلك لم يكن غريبا أن يكتب كتابه برحمة تجلت في «طباطيب عبره».. فهذه من تلك. هذا كتاب الرحمة .. الرحيمي بحق، يبدو لي في طياته كمرثية للزمن الفائت ، أو كيدٍ حانيةٍ تشبه  أيادي  الحناه الحقيقيين عندما تربت على البسطاء ، لكنه يعتبره وثيقة ادانه  لمجتمع الاقطاعيين والاستغلاليين وناهبي حقوق الناس قبل قيام ثورة 23 يوليو ..وإن كان هو نفسه يشن بعد ذلك اعنف نقد على ثوار يوليو  وعلى قائد الثورة وعلى تجربة يوليو كلها.

هذا كتاب.. أو مرثية لما يسميه قطاع عريض من الناس بالزمن الجميل في مصر، وربما في الأمة العربية.. وذلك لأنهم يرون ماتلاه من عصور قبيحًا بكل معاني الكلمة . الكتاب بلغة رومانسيي اليسار وعشاقه ومنتسبيه – إن كانوا لايزالون موجودين!  – أشبه بحافظة لمفردات خبت أو ذوّت . وثيقة صادقة جدًا، ولوحة فن تشكيلي متكاملة.. جدارية نقش عليها كل شيء ..وفيها حنو غير مسبوق .

لا أعرف الكواليس التي كتب فيها الرحيمي كل هذه الطبطبة.. في طباطيب العبر،  ومع انها طبطبة على البسطاء الا أنه كتاب يقرؤه كل القراء..بسيطهم  ومتوسطهم.. فقيرهم وغنيهم .

مأزق الطبطبة!

هذا كتاب يضعنا في مأزق  نحن الذين نحاول كل الوقت التعبير عن هؤلاء،  لأن ما يضعه بين دفتي كتابه هو طبطبة خاصة جدًا،  محبة لاتخبو  ولا تذوي ولا تخمد.

الكتاب يقع في نحو 507 صفحة من القطع العادي، يتضمن مجموعة مذهلة من الحكايات التي يمكن اعتبارها قصصا قصيرة، تربو على الخمسين قصة، موجعة.. مؤلمة ..دامية ..تهز القلوب ..وتزلزل النفوس .. وترج العقول رجًا عنيفًا.. قسمها الكاتب اقساما الأول منها اختار له عنوانًا فرعيًا عامًا : “فيما جرى لبلدنا وقرانا” ويندرج تحته مجموعة من أوجع صور وحكايات المجتمع المصري ، وتغيراته المذهله التي واكبت إندلاع ثورة يوليو في مصر.

الرحيمي في سفر طباطيب العبر يستنزل رحماته على «التَمَلِيّه» والمقهورين .. ويقذف سهامه على الظالمين 

وفي مقدمته واهدائه لكتابه قال الرحيمي ان ثمة كثير من العبر يمكن أن يخرج بها أي متابع للتغيرات التي جرت في مصر من بعد ثورة يوليو إلى الآن ، وبخاصة تلك التى جرت على بعض البسطاء ، والذين اجتذبه منهم فئات ثلاث اولهم “التملية” ، وهم الفئه الأكثر بؤسًا في مصر ( آنذاك) والذين أفنوا حياتهم في الشقا والتعب بالمقابل ، بسبب القمع  المستمر ممن يشغلونهم ،فلم يحصلوا حتي مايسد رمقهم .

الفئة الثانية هي فئة العصاميين من المهنيين ، أو إخوة الشقاء كما يسميهم المؤلف ، والذين شقوا وكدوا من اجل تربية أولادهم وترقبهم بالتعليم ، ومن المفجع أن هؤلاء الابناء تنكروا لأهاليهم ، هربا من طبقتهم

والفئة الثالثة هي فئة النبلاء الذين صادفهم الرحيمي على قارعة الحياة وكانوا يكملونها بطيبتهم ، وهؤلاء لم يؤثروا انفسهم يوما على أحد ولو بالخطأ وكانوا «يطبطبون» على الجميع .

بدأ الرحيمي قصصه المأساوية عن الفئة الاولى ( التملية) بقصة عنوانها «راديو بلدنا ع الدوار» وفيها «فرشة» وتمهيد لما كان من تغيير أحدثته ثورة 23 يوليو في المجتمع المصري ولاسيما في الريف الذي شهد ثورة مع توزيع الفدادين الخمسة على ما لا يزيد عن 10 بالمائة من التملية الذين لم تذكرهم الثورة أو يدركوا أنها كان يمكن أن تغير حياتهم بفدادينها الخمسة.

تتوالي قصص التملية الموجعة   

هذا كاتب يشبه الناس ..الناس الذين تحدث عنهم مؤكدًا “اهتمامه بالانغماس وسطهم ، والكتابة عن شرائح خاصة منهم ..ليمسح عن جباههم حبات العرق المالحة الملتهبه .. وصهد الحياة اليومية -والصهد هو ذروة السخونة – التى تجعلهم دوما يعيشون تحت رحمة النار والحريق .. يكتب عن معاناتهم وحريق النار في قلوبهم ..وعذابهم وآلامهم  وذكرياتهم”

يضيف :أكتب  عن «التملية».. تلك الفئة البائسه من العاملين في وسية البيه والباشا .. فالتملي جاءت من تأدية نفس العمل ..«تملى»..التملي  هو عامل  بائس يقوم  بكل الأعمال التي لاتخطر لنا على بال ، حتي أنه  يمكن أن يكون -وهو المحني الرأس النحيل القوام – كتفًا يتكىء عليها  ذراع الباشا، أو يصعد عليها بقدمه ليركب بغلته ! كتف «التملي» هذا جدار يتكىء عليه مصاص العرق وناهب القوت هذا ، بكامل جسده الضخم  عند نزوله من فوقها،  ويلهث بجواره طول الطريق وهو راكب دابته ، تلك هذه هي مهمته ! «تملي معاك ياباشا». آه لو  أن الاجيال الجديدة عرفت معني «التملي».. الأدنى مرتبة من الخادم ، والأكثر اقترابًا من صفة العبد .. لو عرفت من يكون ماغنت مع عمرو دياب أغنيته الشهيرة «تملي معاك »!

طبقا لما قاله وكتبه الرحيمي عنهم، متلبسًا نفس  روح عملهم الشاق المضني المعذَّب المعذِّب .. فإنه شاطرهم عذابهم في دنياهم ، وترحم عليهم في آخرتهم وهو الكاتب  في كتابة : دأبت على قراءة الفاتحة على ارواحهم في سري، كلما ذهبت إلى المقابر ، لأني لا أعرف اسمائهم ولا أماكن دفنهم لكن الموجع بحق أن مشهدًا جديدًا انفتح على “التملية الجدد” احفاد الراحلين وهم هذه المرة بالملايين.

كتب عن الفلاحين الذين يشكلون الأغلبية العظمي من المصريين وعن الحشاشين والنقاشين كأنه كان يشرب «الجوزة» معهم

كما كتب عن السباكين والنقاشين ، وأظهر أنه يفهم في النقاشة مثل نقاش خبير.. ويلمح كل شاردة وواردة في عصره من انسحاق التملية والفقراء إلى تغير حياتهم مع الثوره و الفدادين الخمسة ..

كاتب يكتب لنا عن الكنيف ..وعن الصديري الشاهي.. وعن أجعصها خياط…. وعن زيت الحشيش يسرح نمله في الرؤوس، والكالونيا الخَرْبَه.. و«الوقيد»( وقيد الكانون)

ويلحظ التطور المجتمعي المذهل حين يرصد في قصة “نهضة بكشه” فيقول : جاءت الموجة الثانية من العمارة فيما أحب تسميته التجدد الحرفي الذاتي أو نهضة المجتمع من كبوة النزوح الجماعى للكفاءات على يد صنايعية موهوبين جدد تمتعوا بقدرات أكبر من النازحين عن المحروسة إلى الخارج.

نون القاهرة

 

t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى