قليلٌ من المفكّرين من يرى احتمال الخطأ في فكره أو احتمال الإصابة في فكر الآخر. وهذا منطلقٌ مهم لإمكان نجاح أي حوار بين أفكار وآراء مختلفة، إذ مع انعدام هذا المنطلق المشترك الذي يتقبّل احتمال الصواب والخطأ في كلّ رأي، سيسير أي حوار بين رأيين أو موقفين مختلفين في طريق مسدود.
عوامل كثيرة تدفع بعض الناس إلى الانحباس في خنادق فكرية، فيعتقدون أنّهم بذلك يصونون أنفسهم من مخاطر جحافل «الفكر الآخر»، بينما هم في الواقع يسجنون ما لديهم من فكر ورؤى، فلا «الآخر» يصل إليها أو يتفاعل معها، ولا هم يتطوّرون أو يكسبون فكراً جديداً بل يبقون على ما هم عليه جامدين متحجّرين.
هكذا هي أيضاً مشكلة بعض الحركات السياسية العربية، أنّها لم تحسن إدراك المفهوم الصحيح للمفاهيم المتداولة أو للانتماءات الدينية والقومية، وقام هذا البعض بخلط المفهوم الفكري والثقافي مع المضامين والمواقف السياسية، فأصبحت أخطار الممارسة مقرونة بمفهوم الانتماء أو الهُويّة نفسها. من أجل ذلك خرجت مدارس فكرية وسياسية تدين «الهُوية العربية» أو هذا الاتجاه «الديني» أو ذاك «العلماني» أو تلك الانتماءات الوطنية، بحالٍ من التعميم لكلّ ما هو يرتبط بالتيّار «الآخر»!.
فرفض «العلمانية» بالمطلق، أو الدفاع عنها بالمطلق، هو إجحاف بحقِّ المفهوم والتجارب التنفيذية له. فالعلمانية، في التجربة الأميركية مثلاً، هي لضمان حقوق كلّ الطوائف والأديان ولمنع هيمنة إحداها على الأخرى، بينما يتمّ استخدام العلمانية في تجارب عالمية أخرى للحدِّ من دور الدين في المجتمع. فأميركا لم تشهد تاريخياً الصراع الذي جرى في أوروبا بين رجال الكنيسة وبين قادة وأمراء الدول، ولذلك اختلف المفهوم واختلف التطبيق رغم وحدة التسمية. وهذا ينطبق أيضاً على الفارق بين التجارب العلمانية الشيوعية وغيرها من الأنظمة العلمانية الديمقراطية، حيث سعت العلمانية الشيوعية لفصل الدين عن المجتمع كلّه، لا لفصل الدين عن الدولة فقط.
ونجد حالياً في الإعلام العربي توزيعاً للحركات السياسية العربية إلى مجموعتين متصارعتين: «إسلامية» و«ليبرالية»، دون إدراكٍ أنّ هذه التسميات لا تُعبّر فعلاً عن واقع وعقائد كل الحركات والتيّارات الفكرية العربية. إذ هل غير المنتمي لحركةٍ سياسيةٍ تحمل صفةً دينية يعني أنّه غير مؤمن أو مسلم أو على تناقضٍ مع الدين نفسه؟! وهل من هو منتمٍ لتيّارٍ سياسي ديني يعني أنّه رافض للحرّيات وللمجتمعات المدنية التي يدعو لها الفكر «الليبرالي»؟!. علماً أنّ «الليبرالية» هي مظلومةٌ في المنطقة العربية، تماماً كما هي التسميات العقائدية والسياسية الأخرى. فكثيرٌ من الذين كانوا ينشطون في بلاد العرب باسم «الليبراليين» كانوا يجسّدون عملياً نهج وسياسة من كانوا يُعرَفون في الولايات المتحدة باسم «المحافظين الجدد»، وليس نهج أو سياسة «الليبراليين» الأميركيين.
فالتيّار «الليبرالي» الآن في أميركا هو تيّارٌ رافض لسياسة الهيمنة الأميركية على العالم وللتدخّل في شؤون الدول الأخرى ولحروب الإدارات السابقة، وهو التيّار الذي رفض استمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان، وهو التيّار الرافض للتمييز بين الناس على أساس الدين أو العرق أو اللون. كما أنّ رموزاً في هذا التيّار تناهض الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية. فهل هذه هي سمات بعض الجماعات العربية الحاملة لتسمية «الليبرالية»؟!.
فالتوافق على فهمٍ مشترَك لمعنى ومضمون أي مصطلح فكري هو المدخل الأهم لأي عمل مؤسساتي أو جهد فكري متعدّد الآراء. هذا الأمر ينطبق حتّى على ما يندرج تحت خصوصياتٍ قائمة داخل الأمَّة الواحدة. فالحلُّ لا يكون برفض المصطلح لمجرّد اختزان مفاهيم عن تجارب محدّدة سلبية تحمل تسمية المصطلح نفسه، إذ المشكلة هنا أنّ المصطلحات كلّها تعرّضت إلى تجارب تطبيقية سلبية ومسيئة، بما في ذلك شعارات الحرّية والديمقراطية.
أيضاً، فإنّ التشويه حدث ولا يزال يحدث في البلاد العربية لمصطلحات فكرية ولمفاهيم كانت هي الأساس في تغيير إيجابي بكثير من أرجاء الأمَّة العربية، وفي مراحل زمنية مختلفة، بينما تنتعش مفاهيم ومصطلحات أخرى تحمل أبعاداً سلبية في الحاضر والمستقبل إذا ما جرى الركون إليها أو التسليم بها. فمصطلح «الشرق الأوسط» أصبح أكثر تداولاً الآن من تعبير «الأمَّة العربية». ومصطلح «المصالح الطائفية والمذهبية» أضحى أكثر انتشاراً من الحديث عن «المصلحة الوطنية». و«التدخل العسكري الأجنبي» تحوّل إلى «تحرير من نظام أو إرهاب»! و«الخصخصة» أصبحت بديلاً لواجبات الدولة في التخطيط الاقتصادي الشامل وفي ضمان «العدل الاجتماعي»، أمّا «الديمقراطية» فجرى اختصارها في آلياتٍ انتخابية ودمغ الأصابع بالحبر!.
ولعلّ أبرز المضامين المعطاة الآن لمفهوميْ «الشرق» و«الغرب» هي قضايا تميّز بين كتل الشعوب (وليس الدول) على أسس سياسية وعقائدية وثقافية. فالغرب هو مصطلح يعني الآن الشعوب التي تعتمد الأنظمة السياسية الديمقراطية ونظام الاقتصاد الحر وتأخذ بالمنهج العلماني في الحكم.
وبالتالي، فإنّ دولةً مثل أستراليا الموجودة في أسفل الكرة الأرضية، والتي هي غير معنيّة جغرافياً بتوزيع العالم بين «الشرق» و«الغرب»، أصبحت الآن دولةً فاعلة في معسكر «الحضارة الغربية»!
وقد وجدت إسرائيل ومن يدعمها من دول «الغرب» الأوروبي والأميركي مصلحة كبيرة في هذه التسميات التي تجعل منها «دولة غربية» و«شرق أوسطية» معاً. إذ أنّ تسمية «الشرق الأوسط» تنزع الهويّة العربية عن المنطقة فتقضم منها دولاً عربية وتضيف إليها إسرائيل بكلّ ما تمثّله الأخيرة من ثقل عسكري وسياسي واقتصادي «غربي».
فمبدأ توزيع العالم إلى «شرق» «غرب» هو حالة نسبية ولا مضموناً علمياً لها، والاختلال في ميزان التسميات حاصل كيفما نظرنا إلى دول «الشرق» و«الغرب». أمّا على «الجهات» الأخرى، أي «الشمال» و«الجنوب»، فنجد تصنيفاً مختلفاً يعتمد على التمايز الاجتماعي والاقتصادي بين دول شمال الكرة الأرضية ودول جنوبها. هو تمايزٌ يقوم على مستويات الفقر والثراء، وعلى مدى التخلّف والتقدّم في الحياة الاقتصادية والنظم الاجتماعية.
وفي الحالتين: تقسيم العالم إلى «شرق» و«غرب» أو إلى «شمال» و«جنوب»، هناك مسؤولية أولى عن الاختلاف الحاصل بين المجتمعات، وهي مسؤولية الإمبراطوريات الاستعمارية التي حقّقت تقدّمها السياسي والاجتماعي عن طريق قهر شعوبٍ أخرى واحتلال أراضيها، ونهب ثرواتها الوطنية وإضعاف عناصر وحدتها الاجتماعية، فأفرز ذلك كلّه على مدار عقودٍ من الزمن تنميةً في بلدان أوروبا وشمال أميركا مقابل تخلّفٍ في معظم المجتمعات الأخرى.
وبينما شعوبٌ كثيرة في «شرق» الأرض و«غربها»، وفي «شمالها» و«جنوبها»، خلُصت إلى قناعة بضرورة نبذ العنف بين بلدانها وداخل مجتمعاتها الخاصّة، وباعتماد النّهج الديمقراطي في الحكم والعلاقات بين المواطنين والأوطان، تزداد للأسف حالات الانقسام الدّاخلي في معظم أرجاء المنطقة العربية، وتتعمّق المفاهيم و«الهويّات» الإنشطارية في كلّ أرجاء الأمَّة على حساب «الهُويّة الوطنية» الواحدة و«الهويّة العربية» المشتركة!.
فها هي المنطقة العربية تعيش الآن مخاطر التهديد للوحدة الوطنية كمحصّلة لمفاهيم أو ممارسات خاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من الأوطان العربية، وما يزال، من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس، وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.
هناك حاجةٌ ماسة لبناء مجتمعات عربية جديدة تقوم على الجمع بين الفهم السليم للأمّة العربية الواحدة القائمة على خصوصيات متنوعة، وبين الولاء للوطن الواحد القائم على أسس سليمة في الحكم والمواطنة…
وهناك حاجةٌ للاتفاق على «البوصلة العربية المشتركة»، كأساس لتحديد من هو «العدوّ»، ولإنقاذ الأمّة من حال الضياع في هذا الزمن الصهيوني الردئ!.
إنّه لواقع حال عربي لا يعبّر فقط عن أزمة فهم المصطلحات، إذ لو كان الأمر كذلك لأضحى الحل في طباعة قاموس جديد!. حقيقة المشكلة هي أنّ وراء كل مصطلح مشوَّه، أدواراً خارجية مشبوهة أو تجارب محلية سيئة، وبعض هذه التجارب السيئة مستمرٌّ في الحكم، والبعض الآخر في المعارضة! ومن هنا يمكن البدء في الإصلاح عبر تصحيح المفاهيم والاتفاق أولاً على «المشترك» لا على «القاسم»، ثمّ العمل السلمي المتواصل لتغيير الواقع العربي الذي تكثر فيه «الخنادق» وتقلّ فيه «الجسور»!.
مدير مركز الحوار العربي في واشنطن
Email: Sobhi@alhewar.com
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية