نون والقلم

د. فرقد الربيعي يكتب: الوجود الإلهي بين العلة الغائية والاعتباطية الكونية

العلة الغائية من المبادئ الفلسفية التي من خلالها يُمكننا إثبات الوجود الالهي، وقد عرفها الفلاسفة (بأنها ذلك الشيء الذي يأخذه الفاعل بعين الاعتبار عند بدئه الفعل وهو يقوم بالفعل من أجل الوصول إليه) فالغاية موجودة لكل فعل فلا فعل دون غاية، فصورة الإنسانية في المادة الإنسانية هي غاية للقوة الفاعلة للتصوير في مادة الإنسان وإليها يتوجه فعلها وتحريكها .

وقد عد الفلاسفة العلم بالنتيجة المطلوبة هي العلة الغائية، بينما الحقيقة إن العلة الغائية هي ذات رغبة الفاعل وحبه وشوقه لها، فالمتيقن لا يتم أي فعل اختياري من دون علم الفاعل ورغبته والقول بخلاف هذا هو محاولة للاستخفاف بالعقل!!!

ولا يمتلك صفة الفاعلية والرغبة إلا الموجود الحي العاقل فلا يمكن للموجود الغير حي والغير عاقل أن يصدر منه فعل اختياري .

وأن قيل على سبيل الفرض إمكانية صدور فعل اختياري، نقول لا يمكن أن يصدر الفعل الاختياري دون علم الفاعل ورغبته، ولنا أن نتساءل هل للمادة الغير حية رغبة في تحقق هدف معين؟ هل لها غاية هل يقبل العقل ذلك؟ حتما تصدر الإجابة من الإنسان العاقل السوي بالنفي، فالغائية اساسية لحياة الكائنات الحية العاقلة، فالعقل الالحادي أمام مأزق ومعادلة معقدة وهو كيف يمكن صياغة تفسير مادي لنشأة المادة الحية من المادة الغير حية الغير عاقلة لأول مرة.

كيف لكون نشأ من مادة غير عاقلة أن تُنتج كائنات لديها غايات وقدرة على التناسخ ولها تركيب كيميائي مرمز؟!

كيف للعقل الالحادي ان يصيغ لنا تفسيراً مادياً مماثلاً لنشأة المادة الحية القادرة على التناسخ الذاتي من المادة الغير حية الغير قادرة على التناسخ.

وبين غائية التوجه وذاتية التناسخ ينكشف للعقل البشري أن هنالك قوة فاعلة عاقلة غير مرئية تدير الكون، القوة ذاتها أعدت كوناً عظيماً يسير وفق نظام دقيق ولكل جزء منها ترميزه الخاص.

أن حركة الموجودات الطبيعية كـ الافلاك وغيرها ليس لها علة غائية وان نفي العلة الغائية عن الافعال الطبيعية للموجودات لا يستلزم ان تكون الحوادث الطبيعية صدفة! كما يقول الماديين، وقولنا بنفي العلة الغائية عنها ليس إقراراً بأن الكون حدث صدفة، بل ان الموجودات الطبيعية غير عاقلة ولا يمكن أن يكون لغير العاقل علة غائية فهي خاصة بالفاعل العاقل ممن صدر منه الفعل الاختياري عن علم ودراية وغاية .

لنتصور لو أن قطعة حجر بعد مرور مليارات السنين أو لنقل بعد زمن لا نهائي هل يمكن أن يُصبح هذا الحجر شيئاً واعياً عاقلاً حياً؟! وهذا الاستفهام ذاته ينطبق على سائر المواد الغير حية .

فالكون مُتناهي الدقة حسابياً لم يكن ليولد من صخرة أو من صدفة أو من لا شيء!!! فمن يعتقد بأن الكون قد نشأ تلقائياً دون وجود قوة ذات غاية قد أخرجته من العدم الى الوجود يكون التفاف على الحقيقة، وبالرغم من عدم معقوليتها يمكننا الجزم أن خلف هذا الكون عقلانية مطلقة ولا يمكن ان تكون حقيقة عمياء مطلقة فكل بُعد من أبعاد الكون يُشير الى تلك العقلانية المطلقة .

فنظام هذا الوجود يعكس نظام عقل سامي ينظمه، فلا يمكن للعقل الالحادي التحايل على واقع تلك العقلانية التي يُدركها العقل السليم من خلال اللجوء للانتقاء الاعتباطي الغير عقلاني لإشاعة مفاهيم تخالف العقل.

فـ من الغريب جدا أن نجد المرء يفقد رشده ويصبح غير عقلانياً، حيث يفترض ان قطعة حجر أو كتلة نار في ظرف معين يُمكن أن يكون لديها { فكر ومنهج وغاية } أعتقد أن العقل البشري يفقد قيمته إن صَدَق هذه السذاجة والخرافة العلمية!!!

كما ان العدمية المطلقة لا يمكن ان تُنتج شيئاً معيناً تحت أي ظرف، فالعدمية المطلقة تفتقد ( الزمان و المكان ) فلا يمكن حدوث شيء حتى في وجود وقت نهائي على سبيل الفرض.

كما أن العدم المطلق ممتنع الوجود والكون والانسان ممكن الوجود و الممتنع الوجود لا يمكن خلق ممكن الوجود، الممكن الوجود يحتاج لعلة قادرة لقوة فاعلة واجبة الوجود تفيض عليه الوجود .

فهذا الكون المُتحرك حتما أنتجته وخلقته قوة لها فاعلية مقصودة، فاعل أوجد كل هذه الكائنات، وهذه القدرات والافعال الغائية فريدة من نوعها ونظرياً بل حتى عملياً لا يمكن ان تُنسب لأي فاعل غير (الإله) .

الثابت فلسفياً إن كل الموجودات هي فقيرة وافتقار الموجودات شاهد على وجود ما يفيض عليها من غناه و إلا كيف لفاقد الشيء والمحتاج أن يُغني وجوده ذاتياً أو يعطي ويمنح شيئاً لنفسه فالعطاء لا يصدر من لا شيء.

المستحيل عقلياً والغير مُتصور الحدوث هو أن المادة الغير الحية أصبحت مفعمة بالحياة ثم مُدركة لمُحيطها كـ الانسان ثم أضحت بارعة القدرة على الفهم كل هذا على نحو الصدفة فهل يوجد عاقلاً يحترم عقله يقبل بهذه النتيجة الغير عقلانية؟!!!

لنا أن نتساءل كيف لمعلومات ذات معنى حقيقي وترميز كيميائي دقيق خاص بكل فرد، ان يظهر تلقائيا من خلال توالف جزئيات غير عاقلة خاضعة لقوى عمياء غير غائية، كيف يمكن ان تقبل فكرة خُلقنا من خلال مادة غير حية وغير عاقلة وهذه المادة الغير عاقلة خاضعة لقوى عمياء ليس لها غاية وهدف، كيف يمكن ان نُخلق نحن وينشأ كون بهذا التناسق من الاعتباطية الساذجة؟!!! وهذا يعني لا توجد أي قوى الزمت المادة غير الحية أن تُنتج كيانات غائية التوجه وذاتية التناسخ، ولكن الغائية للفاعل الاختياري تُثبت هنالك عقلاً سابقاً للوجود أعد كوناً مادياً لكي يُنتج الحياة ، لهذا على العقل الالحادي أن يُقدم تفسيراً عقليا مُرْضياً تماماً لنشأة الحياة ؟!!!

هنالك نقطة لابد من الاشارة اليها وهي بعد مُضي آلاف السنين على خلق الإنسان الاول العاقل وحتى اللحظة يقف العقل البشري عاجزاً عن تفسير كثير من اسراره بما فيها اسباب نشوء الكون وما قبل نشأة الكون وغيرها الكثير و لم يجد الانسان تفسيراً لها ولا زال يخوض غمار البحث العلمي ويواصل رحلات الاستكشاف وما توصل إليه يكشف عن نظام دقيق للغاية ومعقد وبدوره يكشف عن قدرة ذات تصور لأمور غير متناهية، والمعلوم أن الانسان ليس له القدرة على تصور امور غير متناهية بل والالتفات اليها حتى يستطيع ان تكون له أهداف غير متناهية، ولازال عاجزاً عن الإحاطة بما حوله فضلاً من أن يمتلك قدرة ذات تصور غير متناهي!!! السؤال إذن كيف لهذا الكائن المحدود العاجز أن يحيط علما بكُنه الكون وما وراءه؟!

فالعقل المُتأزم يوما ما كان يرفض أن يكون خلف مجموعتنا الشمسية أكوان أخرى لكن العلم اليوم استطاع أن يصل لذلك، لتنكشف حقيقة هو كان يرفضها فلا نعلم لماذا العقل الالحادي يرفض الماورائيات لهذا الكون وهو الذي ثُبت بشكل عملي عجزه عن الإحاطة بكل شيء وانكشف له ما كان يراه مستحيلا أصبح اليوم ممكناً.

وكيف للعقل الالحادي أن يقع بسذاجة أن الكون خُلق من العدم المطلق وأن المادة التي خُلق منها تُحركها قوى عمياء لا تملك الغائية!! وكيف يؤمن أن المادة الغير حية الغير عاقلة لوحدها تحت ظرف معين أصبحت كائن حي عاقل له غاية ويتناسخ ذاتياً!!!!

ومن أجل ترسيخ الفكرة نقول كيف للمادة الغير عاقلة أن تُنتج مادة حية عاقلة؟! كيف لكائنات غير حية غير عاقلة أن تمتلك الغاية؟! وكيف يُمكن أن يكون منشأ حركتها غائية كـ الأفلاك؟! فمن يقول بالاعتباطية الكونية نوجه له استفهاماً عقلانياً وهو كيف تتسق الأفعال الغائية مع الاعتباطية الكونية؟!!!

إذن الفعل الغائي كاشف عن فاعل اختياري غائي وهو العلة التي أوجدت هذا الكون، فكيف لكون يسير باعتباطية وهو كل حركة فيه وكل جزء يكشف عن تدبير عظيم ونظام محكم متناهي الدقة هل يوجد عاقل يحترم عقله يقول بالاعتباطية الكونية مع تجلي كل مظاهر الأفعال الغائية التي ترشدنا للعلة التي أوجدت هذا الكون؟!

فالروبوت ( الرجل الآلي ) يُعتبر أعظم شاهد في العصر الحاضر على تطور العقل البشري وهو أفضل مثال تقريبي لمحاولة الإنسان تحويل المادة الغير حية الغير عاقلة لمادة شبه حية وعاقلة بالرغم من تجردها عن خاصية المادة الحية وعدم امتلاكها الغاية والهدف وقدرة التناسخ الذاتي .

بالرغم من محاولات خلق الإنسان إلا أنه لم يستطع بشكل فعلي تحويل المادة الغير حية إلى مادة حية، إضافة لذلك رغم خلق الروبوتات إلا أنها مسيرة وليست ذات غاية وهدف ولا تمتلك خصائص الإنسان بشكل واقعي، لأن ممن خلقها فاقداً أن يمنح نفسه هذه القدرة لذلك لا يمكنه أن يفيض على الروبوت القدرة على أن تكون له غائية في الأفعال .

إذن لم يعجز الإنسان فقط عن خلق وتحويل المادة الغير حية إلى مادة حية بل عجز أن يخلق كائن له غاية له قدرة عل الفعل الاختياري!!! الشيء الأخر إذا كان الإنسان قد جعل ترميز للروبوت ولم يأتِ الترميز بشكل اعتباطي نتيجة صدفة، فكيف بالترميز الكيميائي لأفراد بني البشر و غيرهم، هل يُعقل وجد بمحض صدفة ؟!!!

فبعد مرور آلاف السنين على خلق الإنسان ولم يتمكن حتى اللحظة أن يحول مادة غير حية إلى مادة حية أليس هذا كاشفاً عن قدرة عظيمة وقوى فاعلة اختيارية خلقت هذا الكون و الإنسان بهذه الدقة المتناهية؟ هل يُعقل أن نُصدق نشأ الكون من الحقيقة العمياء وعلى نحو الصدفة ولا نقبل بأن هنالك قوى فاعلة مقتدرة حكيمة خلقت الكون فأي مفارقة هذه!!!

مقتبس من كتابي المخطوط ( فلسفة الوجود الإلهي )

 

t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى