عندما يفكر المبدع في كتابة عمل روائي مبنيا على خلفية الحضارة الفرعونية؛ فهو يسير متلمسا خطاه بين نسيج شديد التماسك من طلاسم تلك الحضارة التي تعطى أسرارها بمقدار.
وما يبنيه من أحداث، معولا عليها، معتمدا أولا وأخير على ذخيرته الإبداعية، وما يملكه من معلومات عن تلك الحضارة؛ ومع ذلك ثمة مناطق لن يقترب منها، ولن تُذكر في أي كتاب مهما أمتلك من نواصي الخيال.
والدكتور أمير الشبل في روايته الأخيرة «محب» يبحر في تلك العوالم، لينضم إلى من سبقوه من أدباء كبار ومبدعين وعلى رأسهم أحمد شوقي، نجيب محفوظ بأكثر من عمل؛ محمد المنسي قنديل، عبد الحميد جودة السحار، أحمد مراد.
وبالطبع لعبت أساطير لعنة الفراعنة، المختلطة بالانبهار بالحضارة المصرية دورها الرئيسي في معظم الأعمال والشخصيات المستندة على الحضارة الفرعونية .
د .«الشبل» في روايته «محب» يتماهى بأفكاره، رابطا بين الماضي والحاضر، بكل ما فيه والمستقبل بما يحويه من خيال. وكما فعل أمير الشعراء أحمد شوقي في رواية «لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة»، المكتوبة في العام 1899، والتي حاول فيها الكشف عن أزمة زمنه وما يعانيه المواطن المصري تحت وطأة الاحتلال البريطاني في نهاية القرن التاسع عشر، مستدعيا المجتمع المصري في نهاية العصر الفرعوني، واستكملها في «قمبيز»، نجد أن الدكتور أمير الشبل، يربط بين الماضي وما يحدث الآن من خلال رحلة الكاهن محب في الوقت الحالي .
ويطبق الدكتور أمير الشبل أساليب التاريخانية الجديدة التي لا تفترض أن العمليات التاريخية غير قابلة للتغيير وعنيدة، والمستندة إلى فرضية أن العمل الأدبي ينبغي أن يكون نتاج زمان ومكان وظروف، أكثر من كونه نتاج عمل منفرد في خلقه. وأن العمل الأدبي له سياقه التاريخي وفهمه الخاص للتاريخ السياسي والثقافي. من خلال ذلك تطرح الأفكار معتمدة على مجموعة متنوعة من الوثائق من أجل فهم المحتوى، وهذا مطبق بشكل متوازي في رواية محب.
وإن لم يكن الدكتور أمير الشبل مطبقا مبدأ الحيادية تجاه الأحداث التاريخية، بل دماجًا لهذه الثقافات المختلفة. وكان له مفرداته الإبداعية الخاصة في قراءة النصوص التاريخية في ضوء مقاربة واقعية جديدة.
وإذا كانت رواية يوم غائم في البر الغربي للروائي المصري محمد المنسي قنديل. الصادرة عام 2009 تتناول الاكتشافات الأثرية والنضال الوطني في مصر، ويضمنها ملحمة فتاة تهرب بها والدتها من زوجها المغتصب، وتودعها ديرا في أسيوط بعد أن تغير اسمها وتدق على ذراعها الصغيرة صليبا. ثم يتداخل مصير الفتاة وقد أضحت مترجمة، مع مسيرة شخصيات تاريخية مثل هوارد كارتر واللورد كرومر وعبد الرحمن الرافعي.
ويتداخل القص مع التوثيق في وصف الأمكنة والأزمنة فأن بطل رواية الدكتور أمير الشبل الكاهن محب المصحوب باللعنة ورفيقه سمير يتنقلا بين الماضي والحاضر ليصفا الزمنين ويقارنهما بكل دقة.
يأخذنا الدكتور أمير الشبل، كما أخذنا نجيب محفوظ من جديد إلى مصر الفرعونية التي برع في استخدامها ليعرض أفكاره، حيث تتناول الرواية فترة أخناتون والدعوة إلى الديانة التوحيدية عن طريق باحث للحقيقة يحاول أن ينقل شهادات من عاصروا هذه الفترة وكانوا بجوار العرش، ولقد نجح في نقل الشهادات كما هي حتى أن القارئ قد يصاب بالارتباك ويتساءل ما يريد معرفة الكثير عن الملك الفرعوني أخناتون الذي حكم مصر في فترة سابقة، ويذهب لمقابلة الشخصيات التي عاصرت الملك وفترته المثيرة والغنية بالأحداث وذلك يعود إلى أن أخناتون دعا إلى عباده إله واحد هو (أتون) ومعارضة الكهنة له.
تسير رواية الدكتور الشبل على هذا النهج نجد أن محب يؤكد لسمير أنه بعد أن اطلع وبحث في الأديان التي ظهرت على مر التاريخ قرر أن يحترم كل الأديان الموحدة بالله لأنه يدرك حاجة الإنسان بفطرته للإيمان باله يعبده .
وإذا كنا قد حصلنا على الوصفة السحرية التي ستمنح البعض الوصول إلى ما يعتبره البعض الآخر مستحيل الإدراك من خلال رواية أخناتون: الإله اللعين للكاتب جيلبرت سينويه حيث الحلم والخيال هما منبع الممكن، حيث أضف قدراً من الجنون لتجسيد مثالي للبطل المأسوي بالمعني الفني. مستكملا انتقاء أبطال المآسي في الآداب القديمة حيث لابد وأن يكون من بين الشخصيات المرموقة، ملك مثلاً أو أمير، والتعريفات التي وُضعت لمفهوم المأساة في الفن منذ أرسطو تنطبق على هذه الشخصية فنحن في كلا العملين أخناتون: الإله اللعين وراوية محب أمام البطل المأسوي كما يراه أرسطو: «إنسان لا يتفوق فضلاً وعدلاً، لحقت به مصيبته دون سبب من رذيلة أو عوج، بل عن طريق خطأ في حكم، من بين أولئك الذين ينعمون بسمعة عظيمة وازدهار، مثل أويديبوس وثايستس، والرجال البارزين من أسر مشابهة. والتغير في أحوال البطل يجب ألا يكون من الشقاوة إلي السعادة، بل علي النقيض من ذلك، من السعادة إلي الشقاوة، وعلة ذلك يجب ألا تكمن في أي عوج، بل في غلطة عظيمة من جانبه، وقد يكون المرء ذاته كما وصفنا، أو أفضل، لا أسوأ، من ذلك»، وهذا هو محب الكاهن المصري ذو المكانة الخاصة في عصره الذي تم عقابه بلعنة ظل بسببها مسجونا بين الموت والحياة لألاف السنين.
وبالطبع ثمّةَ تفاصيل أخري داخل العمل، ضاعفت من «فنية» هذه الشخصية، مثل سماته التي أثارة الشفقة والتعاطف معه. ليقدم الدكتور أمير الشبل نسخة مصرية فرعونية تصارع الزمن من أجل المصلحة العامة والخاصة. ولا شك أن رسم هذه الشخصية بفنية بامتياز، جعلته أقرب إلى الأدب منها إلى التاريخ.
وإذا كان الفرنسي تيوفيل جوتيه في رواية «المومياء» أو Le Roman de la momie ، الصادرة في عام 1858 وتقع أحداثها في مصر والرواية تبدأ بعد وصف دقيق ومفصل لقبر فرعوني، استوحاه الكاتب من قبر سيتي الأول، أحد أشهر ملوك الأسرة الفرعونية التاسعة عشرة، وخلال أعمال اكتشاف المقبرة يدخل رجلين وهما أبطال الرواية ومعاونيهم بعد زمن من التعب والجهود يفتح أمامهما القبر بشكل لم يكن متوقعاً، ويجدان نفسيهما في حضرة جثمان محفوظ في شكل ممتاز، وبعد شيء من البحث والتمحيص، يتبين بسرعة ان الجثمان هو لفتاة في روعة صباها. فأن رواية محب تحضر القارئ للدخول إلى الأحداث من خلال هذا الاستنشاق للغبار الذي عانى منه سمير واللقاء الأول مع محب الذي قال له: أنا من تبحث عنه وأبحث عنك فلا تخف واقترب.
وإذا كانت «سنوحى المصري» الرواية التاريخية من تأليف الروائي الفنلندي مايكا وولتاري ، تدور أحداثها في حقبة مدهشة من التاريخ المصري القديم، في عهد الفرعون إخناتون والمشتهر عنه كونه أول حاكم موحد في العالم، وبطل الرواية ليس إخناتون بل سنوحي الطبيب الملكي والذي يروى الحكاية من منفاه بعد مقتل إخناتون وانتهاء عهده. سنجد أن رواية «محب» أشمل لتلك الحقبة الفرعونية بأكملها، وكأنها بمثابة أطلس إنساني واجتماعي وسياسي لها، متنقلا بين جميع الأحداث التي تمر بنا من كورونا إلى الأزمات الاقتصادية والسياسية وأزمة سد النهضة .
يقول د. أمير الشبل في روايته: أما عن سد النهضة فالنيل قولا واحدا هو شريان الحياة في مصر وقانون مصر الدائم هو المنقوش على جدران مقياس النيل بنعبد حورس: «إذا انخفض منسوب النيل.. فليهرع كل جنود الملك ولا يعودون إلا بعد تحرير النيل مما يقيد جريانه».
مازالت تستوقفني رواية «ايبو العظيم» للروائي وعالم الآثار المصري الدكتور حسين عبد البصير، والتي تدور أحداثها المتخيلة في مصر الفرعونية، وخصوصًا في فترة ما بعد عصر الدولة القديمة من خلال سرد قصص مجموعة شخصيات في تلك الفترة شديدة التوتر والاضطرابات، ويقول الدكتور حسين عبد البصير: يتعلم القارئ من الحكيم «إيبوور»، كبير الكتاب في القصر الملكي في العاصمة «مَنف»، المهموم بمراقبة أحوال العباد في البلاد، ويتعرف على زوجته الجميلة «سِشن» وابنه «بِتاح»، ويعجب بالجميلة «مِيريت»، شقيق قائد الجيش الملكي «نخت»، ويقرأ قصص الكاتب «مرو» العاشق الشيقة، ويدخل إلى أعماق وأقوال وأفعال الكاتب المهرطق «جحوتي»، ويغوص في حياة وأسرار عشيقته المثيرة «حتحور». وهذا يأخذني في رواية محب الى هذا الرباعي «سمير و سامية»، «محب» و«هويدا» فصتي حب من عصريين مختلفين تسرد من خلالهما أحوال والبلاد .
من المعروف علماء المصريات المعاصرين صنّفوا الأدب المصري القديم إلى أنواع عدة، كانت هذه النصوص غالبًا ما تكون في صورة نصائح أو توجيه معنوي من شخصية مسؤولة مثل فرعون أو وزير إلى ابنه أو أبنائه. من أمثلة ذلك أمثال بتاح حتب ووصايا أمنمحات وتعاليم الولاء وتعاليم كاي جمني وتعاليم أمينيموبي.
نصوص التعاليم الباقية من عصر الدولة الوسطى المكتوبة على مخطوطات من البردي. وفى الحقيقة أن رواية محب بها نص سياسي ممنهج، يبدو فيه وجهة نظر الكاتب السياسية التي تميل إلى تثبيت إنجازات ثورة 30 يونيو؛ والتنقل بين أحداث عدة شهدتها مصر في الآونة الأخيرة إلى أن أختتمها بالموكب الذهبي للمومياوات .
للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية