ينشر موقع «نون» قصة قصيرة للكاتبة الجزائرية صبحة بغورة، تحمل عنوان «ماريا» عندما يطغى الشر نشعر بالحاجة للخير أكثر.
فيما يلي نسرد الكاتبة صبحة بغورة أحداث القصة:
كانت تمشي بين أحلامها وتبدو كأنها قادمة من المستقبل، نضج نظرات عينيها الزرقاوتين يسبق عمرها بكثير «ماريا» ثمرة زواج مختلط، ولدت ونشأت في موطن أبيها، كانت تسبق الحياة إلى جمالها فبدا جمالها نوع من الإحسان لناظريها، كان جمالا ربانيا.
كبرت وأصبحت أنثى كما تشتهيها العيون، شعرها الذهبي المنسدل دوما خلفها تهفو إليه القلوب كلما عبث الهواء بخصلاته، عاشت تضفي بروحها على كل مكان سعة الفردوس وتمثل بهدوء عمق مفهوم المقاومة الفكرية لإعادة الاستقرار والتوازن إلى واقع أسري مفكك يفتقد منذ البداية مقومات البقاء والدوام. وقد أصبح على وشك الانفجار بعدما تنسلت أواصر العلاقات وتناسلت الأخطاء.
أمها لا ترى في واقع حياتها الزوجية ونمط معيشتها ما تطمئن لها نفسها من أمن وسكينة، تجمدت مقاومة الفتاة وهي تحضر تفاصيل النهاية الحتمية بين والديها ثم تعيش وضعا مضطربا لم تكن لها فيه إرادة أو اختيار.
مزقتها الهواجس حول مستقبلها، وانهارت حياتها بعدما لجأ كلا منهما إلى رسم خارطة طريق لحياة أخرى لم يكن لها فيها أي مكان.
تخلصت منها أمها رضوخا لرغبة من اختارته رفيقا لها وكان من أبناء بلدتها جاء مهاجرا لم يشأ وجود ماريا معهما، ولكنها دفعت حياتها ثمنا لنزوة لم تقدر عواقبها فقد غدرها بها وسلبها كل ما تملك.. واختفى، وسرعان ما عثرت بفضل جاذبيتها وأنوثتها الطاغية على رفيق آخر لحياتها، فاحتضنتها جدتها بعدما ساءت حالتها مع الوافد الغريب، وكفلتها في موطن أمها وكانت من الأسر الغنية بالمدينة.
حاولت ماريا التكيف مع الواقع الجديد بعيدة عن والديها، والذي لم يكن أحسن حالا، إذ قرأت ماريا في العيون عدم ارتياح وبدا لها من أخوالها كثير من النفور والجفاء لم تدر سببه، وعاشت أجواء يصعب فيها التمني وبرغم ذلك تلمست السبل لكي تشعر بما هو أفضل في الحياة ليكون عيشها أسعد. ولكن ما خبأه لها القدر كان أفدح، توفيت جدتها بعد شهور قليلة ففقدت الحضن الدافئ والصدر الحنون والقلب المفتوح الذي احتضن آلامها واحتوى أحزانها.
وجدت نفسها أمام مستقبل غامض ومجهول بعدما طغت أحزانه على أفراحه، لقد كان لها من الميراث نصيبا كبيرا استكثره عليها أخوالها فكادوا لها الكيد الأسود، فهي من صلب ذلك الأجنبي الذي أذل أختهم في بلده، لم تجد أي وثيقة تثبت بها حقها ولا حتى نسبها وهويتها كل شيء تمزق واختفى والأفواه صمتت عن الحق ثم كان الطرد من المنزل الحلقة الأخيرة من مؤامرة الخلاص منها.
أصبحت الأزقة الضيقة مأواها تفترش الأرض ليلا وتهيم في الشوارع نهارا تبحث عن من يعينها للحصول على أوراق هويتها، وتبحث عن ما تأكله، اتسخت ملابسها وتورمت قدماها وعلت وجهها الجميل مسحة داكنة.
ذبلت عيناها وتكور شعرها الذي يأبى لونه لذهبي أن يزول، وأخيرا خذلت كبرياءها بعدما لجأت بصعوبة وبعد تردد طويل وعلى استحياء كبير إلى طلب الصدقة، تحجرت الكلمات في حلقها وخانتها العبارات فحفظت بعضها من المتسولين أمثالها وكانت ترددها طوال الليل كي لا تنساها.
سارت كثيرا في الطرقات وعانت من الجوع ومصائب التشرد، استجمعت شجاعة لم تكن تظن أنها تملكها، أطلقت لحبال صوتها العنان تطالب بأوراقها التي تعيد لها كرامتها وحقها الضائع، توسلت إلى كل من صادفتهم أن يعينها على ذلك، ولكن منهم من اعتبرها تهذي، ومنهم من رآها تشرق أكثر مع الفقر فتعرضت على ضعفها إلى أقسى المواقف وأعنفها وصارت حكاياتها على لسان الناس مثالا للشرف المفقود والكرامة المهدرة في طرقات مدينتهم .
توالت عليها الأيام تسقيها العذاب ألوانا، بدأت نذر الشتاء تقسو عليها سريعا قبل أن تفرض نفسها على الطبيعة، بلغ بها وضعها المزري حد النواح، الجوع يفتك بها قبل القر الشديد، ذاقت شعور التجمد من البرد، تحجرت مفاصلها من شدة انكماشها، انقلب هذيانها بالأوراق إلى بكاء مستمر يمزق سكون الليل وينتشر صداه ليبلغ مسامع الراقدين في غرفهم الدافئة، ظنوها مجنونة وهي موؤدة في حياتها، انكماشها طوال الليل فرض عليها الإقامة الجبرية في ذات المكان، لم تعد تقوى على الوقوف ولا على الحركة.
من يراها يظن أنها امرأة مسنة طاعنة في العمر، وهي لا تزال في ربيع العشرينات من عمرها، ازدادت بشرتها سوادا واتسعت رقعته وتعفن جلدها، لم يعد لها حذاء يقي قدميها أو لباس يدفئ جسدها الهزيل.
تذكرت كيف كانت نهاية أمها على يد أحد أبناء هذه المدينة التي تشهد أزقتها على موتها البطيء، ضمت ركبتيها إلى صدرها وانكمشت أكثر من شدة البرد وكادت أن تدخل في غيبوبة قبل أن يقترب منها أحدهم ويناديها باسمها ثم يرمى إليها قطعة نقدية، لقد عرفته أنه هو من غدر بأمها، رأت في القطعة النقدية صورة أمها، تملكته رهبة من نظرات عينيها وهي في أضعف حالاتها فانصرف بسرعة، رفعت رأسها نحو السماء وتمتمت بعدة كلمات بصعوبة وقد آلمها تقشف شفتيها وتحجر صدغيها ثم زاغت عيناها في الفضاء الداكن الذي شقه بصرها فعاشت وسط النجوم .
مر بها فجرا من خرجوا مبكرين للعمل وارتأى أحدهم أن يلتقط لها صورة بهاتفه النقال وهي على نفس الوضع الذي باتت عليه، أراد نشرها عسى أن يتعرف عليها أحد، أضاء الضوء الفضي الباهر للكاميرا وجهها، كانت فاغرة الفم وعيناها ممتلئتان بكل معاني المناجاة، مضى الرجل في طريقه ولم يلحظ أنها كانت رافعة سبابة الشهادتين، رحلت ضحية للشر في صمت بعدما عاشت زمنا يشبهها، رحلت ببراءتها غريبة في بلدتها، فقيرة رغم ثرائها، ولكن ظلت صورتها المنشورة شهادة حية على عار من اغتالها .
نون – الجزائر
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية