إنها ليست المرة الأولى التي يقوم بها جيش العدو الصهيوني بمحاولة شق الصف الفلسطيني والعربي المقاوم، وإحداث وقيعة بين المقاومة والشعب، وعزلها عن محيطها وبيئتها، وفصلها عن حاضنتها ومجتمعها، وإقصائها عن عمقها الاستراتيجي، فقد اعتدنا على هذه السياسة الخبيثة منذ النكبة، عندما كان يقوم بإلقاء منشورات بواسطة طائرات الهليكوبتر على المناطق السكنية الفلسطينية، أو ينادي عبر مكبرات الصوت بسياراته العسكرية الجوالة، يطالب فيها المدنيين بالابتعاد عن المناطق المشبوهة، ومخازن الأسلحة، وأوكار المخربين، وعدم الاقتراب من مناطق الاشتباك وبؤر التوتر خشية أن يتعرضوا للخطر، وإلا فإنهم يتحملون مسؤولية رفضهم وعاقبة صمتهم.
وهي نفس السياسة الماكرة التي اتبعها في لبنان إبان عدوانه المتكرر عليه، فقد كان يقوم بالإجراء نفسه، فيلقي المنشورات، ويذيع البيانات، ويحذر السكان من مغبة الاقتراب من المسلحين أو مساعدتهم، أو تسهيل عملهم والقبول بتخزين أسلحتهم في مناطقهم السكنية.
وهو لا يمل هذه السياسة رغم أنه يعلم عقمها ويدرك فشلها وعدم جدواها، إلا أنه يصر عليها ويتمادى فيها، علها تجدي نفعاً، وتنجح يوماً في إحداث وقيعة وشرخٍ بين المقاومة وعموم الشعب، وتحميل المقاومة المسؤولية عن أي ضحايا يسقطون جراء القصف والعمليات العسكرية.
ربما ينجح العدو أحياناً في خداع الغرب وبعض المؤسسات الدولية، والظهور أمامهم بأن جيشه يحترم قوانين الحرب ويلتزم الاتفاقيات الدولية، وأنه يتمتع بمناقبية عالية وأخلاقٍ إنسانية رفيعة، ولا يستهدف المدنيين ولا يتعمد قصف المناطق السكنية، وأنه يضحي بأهدافه الغنية من أجل سلامة المدنيين العزل، وتجنب إلحاق أضرارٍ بهم.
لكنه لا ينجح أبداً في خداع الفلسطينيين واللبنانيين، الذين عرفوه وخبروه، فآثار عدوانه عليهم بَيِّنَةٌ، وجرائمه بحقهم كثيرة، والشواهد الدامغة التي تدينه وتحمله المسؤولية محفوظة ومؤكدة من جهاتٍ مستقلةٍ ومهنيةٍ عديدةٍ، ولعله لا يستطيع إنكارها وإن شكل لجان تحقيقٍ داخلية ونفى المسؤولية فيها عن نفسه، وحملها لخصمه، فإن الوقائع تكذبه والحقائق تفضحه، والصور التي باتت توثق جرائمه، ويمكن التثبت من مصداقيتها، لا يمكن لعاقلٍ منصفٍ أن ينكرها أو يكذبها.
الحقيقة أن العدو الصهيوني يعرف أنه يكذب على نفسه قبل أن يكذب على غيره، ويدرك أن أحداً لن يصدقه مهما ادعى وتظاهر بالحكمة والإنسانية، ولعل مراجعة بسيطة لجرائمه في فلسطين المحتلة ولبنان، تثبت كذبه وتدحض دعواه، فهذه مجزرة قانا في جنوب لبنان تشهد على كذبه، فقد قتل مئات المدنيين اللبنانيين، الذين لجأوا إلى مقرات قوات الأمم المتحدة يلتمسون فيها الأمن والحماية، ولكن جيش العدو قصفهم عامداً، وقتلهم عن قصدٍ ونيةٍ، رغم علمه بأنهم مدنيون، وأنهم يقيمون في مقراتٍ أممية، يعرف إحداثيتها ويحفظ مواقعها، ويدعي احترامها وعدم المساس بسيادتها، وقد سبق لقيادتها أن نبهته وحذرته.
وبالانتقال إلى غزة التي قتل فيها بقنبلةٍ يتجاوز وزنها الألف كيلو جرام، عشرات المدنيين الفلسطينيين في غارته على مبنى سكني في حي الدرج المكتظ بالسكان، خلال استهدافه للقيادي في حركة حماس صلاح شحادة، الذي استشهد وعشرات المدنيين الآخرين من الأطفال والشيوخ والنساء، وإثر جريمتهم النكراء هنأ رئيس حكومة كيانهم قائد جيشه وأجهزته الأمنية على نجاحهم في تصفية صلاح شحادة، ولم يتوقف عند عشرات المدنيين من النساء والأطفال الآمنين الذين قتلوا نتيجة القصف أو تحت ركام المبنى.
وكذلك غارته الشهيرة على منزلٍ في مخيم جباليا، كان يقطنه الشهيد نزار ريان، دمر خلالها طوابقه الأربع، وأسقطها فوق بعضها البعض، فقتل نزار ومن كان معه، وأزهق أرواح عشرات المدنيين من عائلته وأسرته، وجلهم من النساء والأطفال، الذين لا يخفى على العدو وجودهم، ولا يختلط عليه تمييزهم.
لا ينسى الفلسطينيون في قطاع غزة غارات الطائرات العسكرية المجنونة على مدرسة الفاخورة بمخيم جباليا، التي لجأ إليها المدنيون الفلسطينيون لينجوا بأنفسهم من حمم الصواريخ الإسرائيلية، إلا أنها استهدفتهم بدقةٍ ومزقتهم وبعثرت أشلاءهم، وقتلت العشرات منهم، رغم أن المدرسة تابعة لوكالة الأونروا، وهي مسجلة لدى الجهات العسكرية الإسرائيلية بأنها مدرسة، وأن الذين لجأوا إليها هم من عامة السكان وجيران المدرسة، إلا أن ذلك لم يشفع لهم، ولم يمنع طائرات العدو من استهدافهم.
ليست المرة الأولى التي يكذب فيها الناطق باسم جيش العدو، الدعي الأفاق أفيخاي أدرعي، فقد سبق له قبل سنتين أن أطلق ذات التصريحات تجاه لبنان، عندما ادعى بالصورة والإحداثيات، استخدام حزب الله لمقراتٍ مدينة، وقيامه بتخزين أسلحة في مناطق سكنية، مما يعرضهم للمخاطر والمغامرة، لكن حزب الله لم يسكت عن الدعوى الكاذبة، ولم يسلم بالتصريحات الخبيثة، بل دعا جهازه الإعلامي في الوقت نفسه في ساعات الليل الأولى، المؤسسات الإعلامية الصديقة وغير الصديقة، لزيارة الأماكن التي ادعى أدرعي أنها مخازن أسلحة لحزب الله، فثبت للحكومة ولجهات الرقابة والمؤسسات الإعلامية كذبه وبهتانه.
اليوم يكرر أدرعي ذات الاتهام للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ويتهمها كما اتهم حزب الله، بأنها تخزن أسلحتها في مناطق سكنية، وكان قد اتهمها من قبل أنها تستخدم المؤسسات والمراكز الدولية لتخزين الأسلحة أو شق الأنفاق، وكما ثبت كذبه في لبنان ونفت الأمم المتحدة دعواه، فإن المقاومة الفلسطينية الحريصة على حياة شعبها، والأمينة على حقوقه، والوصية على قضيته، تتهم العدو الصهيوني بالكذب، واللجوء إلى الحرب النفسية المكرورة، والأسطوانة المشروخة ذاتها، التي لا يصدقها شعبنا ولا يعبأ بها.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية