نون والقلم

طارق تهامي يكتب: دولة مصطفى النحاس

قلنا في الأسبوع الماضي، إن الوفد الحزب الأهم في مصر، عند تأسيسه، كان ملتقى الأفذاذ، وخاض نضالًا كبيرًا مع زعيمه الأول سعد زغلول، من أجل تحقيق الهدف الأساسي، وهو الاستقلال، وقد أسفر هذا النضال عن إصدار دستور 23 وإجراء أول انتخابات برلمانية، فاز فيها الوفد بالأغلبية، وقام سعد بتشكيل أول وزارة، ليبدأ مرحلة النضال السياسي التي جعلته الحزب الأكثر رسوخًا في أذهان المصريين حتى اليوم.

عندما نتحدث عن مراحل النضال السياسي للوفد والوطن، يبقى مصطفى النحاس زعيمه الثاني، نموذجًا فريدًا لا يتكرر، للسياسي الفقير الذي أصبح رئيسًا للوزراء عدة مرات، متخذًا من حُب الناس سندًا وظهيراً.. رجل وهب حياته لوطنه بلا ملل، واجه صعوبات في حياته ولم ينحن يومًا أمام طغيان القوة الباطشة ولم يتراجع أما طوفان السلطة لتبقى سيرته نقية لم يلوثها فساد، حتى إنه مات عام 1965 وهو لا يملك ثمن الدواء.

بعد وفاة سعد زغلول عام 1927 تم اختيار مصطفى النحاس رئيسًا للوفد ورئيسًا للبرلمان.. فكان الرجل مميزًا في إدارته للوفد والوطن.. وكان يستعير فكر القاضي العادل.. فقد كان النحاس من أبرز رجال القضاء في زمنه.

وتصف الكاتبة سناء البيسي هذه المرحلة من حياته وصفًا مبدعًا عندما كتبت عنه في الأهرام يوم 8 سبتمبر 2007، قائلة: «دولة مصطفى النحاس.. الوحيد المتفرد على أرض مصر أول من سبق اسمه لقب دولة.. كان لقاؤه الأول بسعد زغلول في عام 1909 عندما كان يشغل موضع العضو الشمال في إحدى الدوائر القضائية بمحكمة القاهرة في الدائرة التي يرأسها صالح حقي باشا، وأثناء نظر إحدى القضايا مال رئيس الدائرة على عضو اليمين وتحدث معه، ثم مال على عضو الشمال مصطفى النحاس وقال له باستخفاف: سنُصدر حكمًا بكذا، فقال النحاس: أنا لي رأى آخر ويجب في هذه الحال الانتقال إلى غرفة المداولة.. ولكن حقي باشا لم يستجب لطلب النحاس ونطق بالحكم، فما كان من الأخير إلا أن قال لكاتب الجلسة بصوت عال.. وعلى مرأى ومسمع من جمهور المتقاضين وغيرهم من المواطنين داخل قاعة المحكمة: اكتب أنه لم يؤخذ برأي عضو الشمال في هذا الحكم.. وحدثت ضجة كبرى داخل القاعة، ما اضطر حقي باشا إلى رفع الجلسة والانتقال إلى غرفة المداولة، وترتب بعدها بطلان الحكم، ولم يجد حقي باشا ما يشفى غليله إلا أن يشكو النحاس إلى وزير الحقانية وقتها سعد زغلول الذي استدعى إليه النحاس لتكون المقابلة الأولى بينهما التي أسفرت عن اعتزازه بموقف النحاس.. فأصدر قرارًا بنقله قاضيا جزئيا، تكريما وإعجابا بشجاعته».

عاش النحاس معظم حياته معارضاً.. وذاق طعم الحكم لكنه لم يبع وطنه من أجل مقعد في البرلمان ولا رئاسة وزراء.. ثم قضى ما تبقى له من عمر مغضوبًا عليه من الحكام الجدد.. لكنه أبدًا لم يلن ولم يقل كلمة يحاسبه عليها التاريخ فقد كان مدافعًا صلدًا عن الديمقراطية.

قام النحاس بتشكيل حكومته الأولى يوم 16 مارس 1928.. وتمت إقالتها يوم 25 يونيو من نفس العام أي بعد حوالي ثلاثة أشهر فقط.. أما الحكومة الثانية فقد استمرت ستة أشهر في الفترة من أول يناير 1930 وحتى 19 يونية من نفس العام.. أما الوزارة الثالثة فقد استمرت 14 شهرًا من 9 مايو 1936 وحتى 31 يوليو 1937.. الحكومة الرابعة استمرت حوالي خمسة أشهر من 1 أغسطس 1937 وحتى 30 ديسمبر من نفس العام.

أما الحكومة الخامسة فقد استمرت أربعة أشهر من 4 فبراير 1942 وحتى 26 مايو من نفس العام.. وهي الوزارة التي تعرض النحاس لهجوم شديد بسببها.. لأن الانجليز فرضوها على الملك فاروق، فقد كانوا يريدون حكومة يرضى عنها الشعب خوفًا من القلاقل الداخلية أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكن النحاس قال في خطاب الحكومة موجهًا حديثه للملك: «لقد ألححتم علىّ المرة تلو المرة ثم ألححتم علىّ المرة تلو المرة كي أقبل هذه الوزارة وقد قبلتها» لينفي الرجل بذكاء شديد الاتهام الذي وجهه خصوم الوفد للنحاس بالتواطؤ من أجل الحصول على منصب رئيس الوزراء.

واستمرت حكومة الوفد بمرسوم جديد للمرة السادسة من يوم 26 مايو 1942 وحتى 8 أكتوبر 1944، ثم كانت الوزارة الأخيرة للوفد برئاسة مصطفى النحاس خلال الفترة من 12 يناير 1950 واستمرت حتى 27 يناير 1952.

ورغم كل هذه الوزارات وكل هذا السلطان كان يعود الرجل بعد أشهر قليلة من الحكم إلى صفوف الجماهير، مناضلًا ومكافحًا من أجل الحرية والديمقراطية، لم يفسد ولم يتربح، حتى إن خصومه حاكموه في البرلمان وأصدروا ضده كتابًا أسود واتهموه بالفساد لأن زوجته السيدة زينب الوكيل لم تدفع رسومًا جمركية مقررة على «فرير» حضرت به من الخارج وكانت ترتديه، فاعتبره خصومه فساداً!! وظل النحاس يواجه هذه التهمة الكبيرة بالفساد، تهمة مرور زوجته بقطعة ملابس تم تصنيفها باعتبارها من الكماليات دون دفع الرسوم، الرجل كافح وناضل ولم يسرق ولكنه لم يدفع رسومًا مقررة على قطعة ملابس بسيطة فاتهموه بالفساد ظل مقيد الحركة حتى توفى يوم 23 أغسطس 1965 وهو لا يملك سوى معاش لا يكفى تغطية ثمن الدواء، عاش فقيرًا ومات فقيراً، ولكنه بلا شك رحل زعيمًا فماتت الزعامة من بعده.

tarektohamy@alwafd.org

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا

 

t   F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

أخبار ذات صلة

Check Also
Close
Back to top button