مهما كانت النتائج التي سيسفر عنها الاستفتاء على الدستور الجديد في تونس، والمقرر في 25يوليو/تموز، فهي ستضع البلاد أمام مرحلة جديدة، وما قبل الاستفتاء لن يكون كما بعده، على اعتبار أن موافقة أغلبية المواطنين على التعديلات، وهو المرجح، سيفرض وضعاً جديداً يحرر الرئيس قيس سعيّد من المقيدات الدستورية التي كبّلت حركته الإصلاحية، لأن القوى البرلمانية الرئيسية، لاسيما كتلة نواب حركة «النهضة الإخوانية» لم تتعاون معه؛ بل إنها وضعت أشواكاً مسنّنة أمام عجلات عربة الإنقاذ، وأسهمت في تغطية الارتكابات التي حصلت على المستويات الأمنية والقضائية والمالية منذ الثورة عام 2011 وحتى الآن.
منذ أن نشر الرئيس سعيّد مشروع الدستور الجديد في الجريدة الرسمية، أو «رائد الجمهورية»، فُتح نقاش واسع في الأوساط الحزبية والإعلامية حول التعديلات المقترحة، وقد عارضته بعض الأحزاب الكبيرة، وأيدته أحزاب أخرى، بينما اتخذ الاتحاد العام للشغل موقفاً محايداً، وترك لأعضائه حرية التصويت في عملية الاقتراع.
ويمكن الملاحظة بوضوح أن فتوراً يخيم على الحملة الدعائية للاستفتاء، والمؤيدون للتعديلات لا يبذلون جهوداً مناسبة لحجم التحدي الذي يواجههم، ذلك أن مستقبل الأوضاع في تونس مرتبط بالكامل بنتائج الاستفتاء، سواء جاءت سلبية أم إيجابية.
قد لا تكون البرودة في التحضيرات لليوم الكبير جاءت من فراغ؛ بل ربما تكون جزءاً من التكتيك المعتمد للنُخب المؤيدة للرئيس سعيّد بهدف تجنّب السجالات الكبيرة، أو لتلافي توتير الأجواء، حيث تجهد حركة «النهضة» لتوتير الصفاء الأمني القائم. وقد ظهر ذلك بوضوح في الاحتجاجات التي نظمتها الحركة ضد محاكمة رئيسها راشد الغنوشي بتهمة غسل الأموال أمس الأول الثلاثاء. والغنوشي اعتبر أن محاكمته والحجز على حساباته المصرفية مع 9 آخرين يأتيان للضغط على الحركة لأنها عارضت التعديلات الدستورية التي ستعيد البلاد إلى النظام الرئاسي الاستبدادي كما قال.
منسوب التسجيل المرتفع من قبل الذين يرغبون في المشاركة في التصويت يؤكد أن الأجواء الشعبية تميل إلى دعم التعديلات، وتوقعات نجاح الاستفتاء تتقدم على فرضية الفشل. وقد بلغ عدد المسجلين 9 ملايين ناخب داخل البلاد، وأكثر من 300 ألف ناخب مقيمين خارجها، وهذا بحد ذاته يعطي مشروعية للخطوة التي أقدم عليها الرئيس سعيّد، ويُحرج المعارضين له.
المعارضون للتعديلات الدستورية بالغوا في إطلاق التوصيفات القاسية على عملية التعديل، متهمين الرئيس سعيّد بأنه يطمح لتكريس ديكتاتورية رئاسية تشبه ما كانت عليه تونس قبل عام 2010، واعتبروها تقويضاً لإنجازات ثورة الياسمين، بينما المؤيدون للتعديلات يرون أن المعارضين لها هم الذين قوضوا إنجازات الثورة، واستغلوا تضحيات كوادرها لتحقيق مصالح شخصية وفئوية واضحة، وقد تسببوا بالشلل الاقتصادي والمالي والاجتماعي الذي تعانيه البلاد اليوم، متسلحين ببعض بنود دستور عام 2014.
مهما يكن من أمر، فلا يمكن الاستخفاف بالتعديلات التي أدخلت على دستور عام 2014، وهي بالفعل ستؤدي إلى إحداث تغييرات جوهرية على الحياة العامة التونسية؛ لأن الرئيس الذي لا يستطيع الترشح للمنصب أكثر من دورتين متتالين، أصبح هو ذاته الذي يختار رئيس الحكومة ويعين الوزراء من دون العودة للبرلمان. وهذا البرلمان له الحق بنزع الثقة عن الحكومة وإسقاطها، لكن بأغلبية ثلثي أعضائه. كما أن إنشاء مجلس منتخب يمثل الأقاليم التونسية، سيُقيد بعض صلاحيات البرلمان، وسيستفيد رئيس الجمهورية من هذه الازدواجية التشريعية، لا سيما في موضوع التنمية المحلية، لكي لا تستغل الكتل البرلمانية التي تتبع للأحزاب الكبيرة نفوذها الجهوي لاستمالة الناخبين.
لكن الرئيس سعيّد والفريق المؤيد له، يسعون لتغيير المعادلة البرلمانية بالكامل في الانتخابات التشريعية المقررة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2022، وبطبيعة الحال، فإن نتائج الاستفتاء على الدستور ستكون مؤثرة في الانتخابات، وبين أن يخرج مناصرو الرئيس بهزيمة أو بانتصار فرق كبير بطبيعة الحال.
الدستور الجديد سيغير طبيعة النظام التونسي برمته، وسيحوله من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، لكن المشروع الجديد لم يحظَ باحتضان واسع كما كان يتوقع الرئيس سعيّد؛ بل على العكس من ذلك، فإن برودة خارجية واضحة ترافق العملية على أهميتها، وباستثناء الاعتراضات التي سجلتها المنظمات الدولية التي تهتم بمسائل حقوق الإنسان، وقد استجاب الرئيس سعيّد لبعض طلباتها، لم يتم رصد تصريحات خارجية واسعة تواكب الاستحقاق.
قد يكون الاختناق السياسي والقضائي والمالي الذي عاشته تونس في السنوات الثلاث الماضية، هو المبرر الأول للتعديلات الدستورية، لكن الدخول في مثل هذا العمل بالغ الأهمية يعتبر خطوة جريئة، لأن مثل هذه المشاريع الكبيرة عادة ما تحتاج إلى مروحة أوسع من الاستطلاعات والاتصالات.
نقلا عن صحيفة الخليج
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية