لا أحد كان يتوقع عشية سقوط جدار برلين، ونهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، أن الأحلاف العسكرية التي شكلت رموزاً للحرب الباردة التي استمرت زهاء نصف قرن، كما هو الشأن بالنسبة لحلفي «وارسو» و«الناتو» ستظل قائمة، رغم زوال الظروف التي ترعرعت فيها.
لم يصمد حلف «وارسو» أمام تسارع الأحداث؛ لينهار في أعقاب سقوط جدار برلين، وانتهاء الصراع الإيديولوجي، فيما ظل غريمه «الناتو»، قائماً، فمنذ بداية التسعينات من القرن الماضي، ومع التحولات السياسية والاقتصادية الكبرى التي شهدتها أوربا الشرقية وعدد من الدول المستقلة عن الاتحاد السوفييتي (سابقاً)، حرص الحلف الذي يستأثر بمهام تندرج ضمن الدفاع الجماعي، على تكييف مهامه مع التحديات الأمنية التي فرضها الواقع الجديد، لتشمل عدداً من القضايا والملفات ذات الطابع السياسي والاجتماعي.
ورغم تراجع حدّة سباق التسلح مقارنة مع فترة الصراع الإيديولوجي، فقد تجاوزت التدخلات العسكرية للحلف خلال هذه المرحلة، الحدود الأوربية إلى مناطق أخرى كأفغانستان والعراق وليبيا ضمن استراتيجية جديدة، فيما اعتبر «الناتو» في عام 2016 أن الحروب الإلكترونية هي امتداد للحروب التقليدية التي تستوجب تحريك المادة الخامسة من الوثيقة التأسيسية للحلف، والتي تنص على أن أي اعتداء يستهدف دولة عضو يمثل اعتداء على كل الدول الأعضاء، ما يستدعي الرد الجماعي.
لم تسمح انشغالات روسيا لسنوات بمخلفات الاتحاد السوفييتي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالاعتراض على التحركات التي نهجها الحلف على امتداد عدة سنوات، غير أن الموقف سيتغير مع تبنّي الحلف في عام 2008، ما سمي بـ«سياسة الباب المفتوح» أمام جورجيا وأوكرانيا، حيث عبرت روسيا عن انزعاجها من هذه التوجهات.
ومع تطور الأوضاع العسكرية في أوكرانيا على إثر التدخل العسكري فيها، بدت لغة التصعيد والتوتر واضحة، فروسيا ربطت وقف العمليات العسكرية باستسلام أوكرانيا والانصياع إلى مطالبها، فيما تمخض عن اجتماع قمة حلف «الناتو» في مدريد الشهر الماضي، مجموعة من الرسائل التصعيدية.
ترافق ذلك مع التأكيد على تقديم المساعدات لشركاء الحلف في عدد من المناطق بما فيها منطقة الساحل الإفريقي، فيما أعلن بشكل رسمي عن دعوة كل من السويد وفنلندا للانضمام إلى الحلف، وهوما يشكل خطوة غير مسبوقة، ستُخرج البلدين من دائرة الحياد التي امتدت إلى قرنين بالنسبة للسويد وأكثر من سبعة عقود بالنسبة لفنلندا.
يصّر الحلف على دعم أوكرانيا في مواجهة روسيا، حيث تم توجيه مجموعة من المساعدات المالية والعسكرية لمساعدتها على المقاومة والصمود.
وبالموازاة مع ذلك، ظهرت ملامح توتر أخرى توحي بإعادة سيناريو الحرب الباردة من جديد، مع تأكيد تطوير الترسانة العسكرية للحلف، وانخراط عدد من الدول الأوربية كألمانيا بتخصيص ميزانيات غير مسبوقة لمجال التسلح، فيما لوحظ أن هناك تعزيزاً للتواجد العسكري الأمريكي في أوروبا، وبخاصة في كل من بولندا وإسبانيا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا.
وفي مقابل هذه التوجهات، تبرّر روسيا عملياتها العسكرية الجارية داخل أوكرانيا، بتأمين محيطها ضد ما تعتبره تحرشات صادرة عن كييف الساعية للانضمام للحلف، إضافة إلى الحيلولة دون فرض الغرب لنظام دولي مبني على الهيمنة وتحقيق مصالحه الضيقة، كما تصرّ موسكو أيضاً على أن توسع «الناتو» هو استهداف لمكانتها ومصالحها.
وبين تأكيد الحلف على تعزيز وجوده العسكري طويل الأمد في أوروبا الشرقية، ضمن رؤية الاستراتيجية المبنية على الردع، وحرص روسيا على أمنها، ورفضها لتوسع الحلف وتموقعه على حدودها، يبقى المستقبل غامضاً، ويحيل إلى مجموعة من التساؤلات والمخاوف، حول ما إذا كان مناخ الحرب الباردة بأحلافه العسكرية، سيخيم بغيومه القاتمة على العالم من جديد.
نقلا عن صحيفة الخليج
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية