توقفت طويلاً أمام غلاف عدد الأسبوع الماضي من مجلة «الإيكونوميست». لا أذكر أنني توقفت أمام غلاف مجلة وقورة وواسعة الانتشار لمدة طويلة مثل المدة التي قضيتها ثابت النظرة، مثاراً بالإعجاب أمام هذا الغلاف.
تذكرت أيام بدء انبهاري بالسياسة والصحافة السياسية. كانت لي وقفاتي المطولة أمام «فرشات» الصحف الأشهر في ذلك الحين. إن نسيت لن أنسى فرشة ميدان لاظوغلي، الفرشة التي كانت تخرج منها صحف الصباح ومجلات الأسبوع لتصطف على دواسة بيتنا. هناك كنت أجمع بعض ما فات على صاحب الفرشة جمعه وإرساله من مجلات ومطبوعات أحمله معي لقراءته في الطريق إلى جامعة القاهرة أو إلى جاردن سيتي، حيث مقر عملي المؤقت في المكتبة الأجنبية.
عن غير قصد، تجاوزت هذه المقدمة الحد الذي قدرته لها قبل أن أشرع في الكتابة عن تطورات تسبق نهاية أزمة دولية. أزمة بدأت محاطة بشكوك في صدقية ونوايا كل أطرافها وتدهورت نحو أوضاع هزلية. كادت هذه الأوضاع تشمل العالم بأسره بما فيه شرقنا الأوسط أو الأدنى أو الأبعد حسب مسمياته المستجدة باستمرار، حتى صار الشرق الأوسط مضغة في كل الأفواه ولازمة لكل قلم يكتب في السياسة.
في مطلع الأزمة العالمية الراهنة، أزمة أوكرانيا، كتبت وكتب آخرون يحذرون من أن العالم ينجرّ جراً نحو كارثة إذا لم يبطل فوراً مفعولها. خرجت الكارثة من رحم فكرة سيئة أو نبتة شيطانية أو اجتهاد محفوف بالشر. كان الاحتمال كبيراً أن تتفاقم الفكرة فتصير مشروعاً خبيثاً للتدمير، ويصير الاجتهاد استراتيجية وأحلافاً وحلفاء وخصوماً وأعداء وأسلحة تتدفق من دون حساب وأموال معونات، بعضها في انتظار بيوت آمنة يستقر فيها إلى حين غير معلوم.
قبل انطلاق الأزمة شهد العالم أوضاعاً عالمية كثيرة تتحرك في اتجاه الفشل أو خيبات الأمل وبعضها انتهى بالسقوط، وفي حالات بعينها كان السقوط مدوياً. العولمة التي كانت أساطيرها على كل لسان وإنجازاتها على كل قلم كنا شهوداً على انطلاقاتها. رأيناها تنحسر. عشنا لنراها تتعرض لحملات شرسة ومنها الاتهام بأنها وراء نهضة الصين الاقتصادية ومحرك صعودها على طريق القمة الدولية.
في قلب الأسئلة الباحثة عن تفسير مقنع لسرعة انحدار أمريكا وهي ما تزال تحتل وضع القطب الأعظم في نظام دولي أحادي القطبية. فشلت في صنع سلام إقليمي في الشرق الأوسط وتصرفت تصرف الدول الخارجة عن القانون وعن النضج بتمردها المعلن على قواعد نظام دولي هي تقوده وبتدخلها المخزي في العراق وفشلها المتكرر، أو المتعمد، في تحريك قضية فلسطين في اتجاه يناسب تطلعات أغلبية أهل الشرق الأوسط.
يستمر الانحدار الأمريكي المطلق كما وصفه الرئيس ترامب، أو النسبي كما اعتبره بعض علماء العلاقات الدولية. الانحدار مطلق بمعنى أن الخلل مصدره أمريكي وأنه تجذر بالفعل. أما النسبي فبمعنى مقارنته بصعود الصين المتوالي والاسترداد المتدرج من جانب روسيا لبعض ما فقدت من مكانة القطب الدولي ومعظم نفوذه. خلصنا من تجارب عديدة إلى أن الانحدار مستمر ومنها قمة الأمريكتين الفاشلة التي انعقدت في لوس أنجلوس الأمريكية، ونخلص الآن من آخر مراحل التجربة الأوكرانية إلى أن أمريكا ليست في أحسن حالاتها، بل إن فرصها لاستعادة وضعها ليست عديدة أو مبشرة، على عكس ما تردده من أنها والغرب حققا إنجازات مهمة ومنها ما يلي:
أولاً، أعادت للغرب وحدته، فالدول الأوروبية صارت تتنافس فيما بينها على تقديم السلاح لأوكرانيا لتستمر في الحرب.
ثانياً، دفعت دولاً أكثر للانضمام لحلف «الناتو» بمحض اختيارها وليس تحت أي نوع من الابتزاز أو الاستفزاز.
ثالثاً، رغم كل القلق المحيط بالعلاقات بين الصين والغرب لم تتدخل الصين في الأزمة عسكرياً بشكل يهدد الموقف الغربي في الأزمة.
رابعاً، لم تعترض دولة غربية اعتراضاً حاداً على قسوة العقوبات التي فرضتها واشنطن على روسيا والمتعاملين معها.
واقع الأمر يفرض إدراكاً آخر لنتائج الأزمة مختلفاً عن إدراك واشنطن ولندن أو ما تحاولان الزعم بأنه حقيقة مطلقة. يعرض هذا الواقع خلاصات ونتائج مختلفة منها على سبيل المثال:
أولاً، الغرب ليس موحداً كما تود أمريكا أن تقنع العالم. صحيح أن الفعل الروسي في أوكرانيا أقنع الكثير من قيادات أوروبا بجدوى الاستعداد أمنياً لاحتمالات تكرار الفعل الروسي ضدها أو ضد دول ودويلات مجاورة، ولكن الصحيح أيضاً هو أن أغلب هذه القيادات صارت تفكر في أن أمن أوروبا، وبخاصة الأمن الاقتصادي والعسكري، لا يجوز أن يستمر معتمداً على أمريكا خاصة وحلف «الناتو» عامة.
ثانياً، لم تثمر الحملة الأمريكية السياسية والإعلامية المستمرة ضد الصين منذ عهد ترامب ما هدفت إليه وبخاصة إشعال موجات عداء أو خصومات جديدة بين أوروبا والصين.
ثالثاً، تفاقمت إلى حدود قصوى أزمات الجوع بسبب النقص في واردات الحبوب والزيوت من أوكرانيا وروسيا وبسبب رداءة قرار العقوبات.
رابعاً، لست أشك للحظة واحدة في صحة الرأي السائد والقائل بأن أمريكا لم تحسب كعادتها النتائج غير المباشرة للحرب الاقتصادية التي فرضتها على الاتحاد الروسي والدول التي تتعاون معه. كثيرون يعتقدون، وأنا منهم، أن أمريكا نفسها، وقد تولت قيادة فريق «الناتو» المناهض لروسيا، لم تحسب حجم الأضرار التي ستعود عليها هي نفسها وعلى الدول ذات «الاقتصادات الحرجة» مثل ألمانيا ودول كثيرة في العالم النامي من جراء تطبيق هذه العقوبات.
خامساً، الآن وبعد كل ما تعرض له العالم من خسائر وهزات يقولون في دوائر الاتحاد الأوروبي إن الطريق لانضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي ليست ممهدة، بل شاقة وصعبة لسبب بسيط وخطير معاً، هو أن النظام الأوكراني فاسد إلى حدود رهيبة تكاد تستعصي على أي جهود سياسية تبذل في هذا الصدد، وليس غائباً عن ذاكرتنا ما كان يجهر به علناً وسراً الرئيس دونالد ترامب عن فساد قادة كييف والمتعاونين معهم من ذوي الصلة بقيادات بعينها في الحزب الديمقراطي الأمريكي.
في النهاية وعلى رصيف شارع من أهم شوارع القاهرة وقفت حزيناً أمام غلاف آخر عدد من أعداد «الإيكونوميست»، غلاف تزينه أو تقبحه صورة بوريس جونسون يتقافز فرحاً مهللاً ومزداناً بعلم إمبراطورية بريطانيا العظمى وتحت عنوان رائع الصياغة، بالغ الدلالة؛ اختاره المحررون لا لعدد بذاته ولكن لحقبة كاملة من هيمنة الغرب.. اسمحوا لي باستعارته بتصرف، سقوط التهريج والمهرج، عنواناً لهذا المقال الذي شرفت بكتابته.
نقلا عن صحيفة الخليج الإماراتية
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية