الوفديون.. دائماً يقولون إنهم أصحاب فكرة وليسوا أعضاء حزب! كلام قد يبدو غريباً من أبناء التنظيم السياسي الأعرق في الشرق الأوسط، ولكنه كلام واقعي، يعبر عن انتماء لفكر وعقيدة سياسية وليس ارتباطاً عضوياً بتنظيم حزبي. وهذا هو السبب الرئيسي لشراسة دفاع «الوفديين» عن حزبهم، في الأوقات الصعبة، وفي مواجهة كل محاولات اختراقه، أو الاستيلاء عليه، وهذا الارتباط «الفكري» هو السر الحقيقي وراء عدم انتماء الوفدي لحزب آخر، إذا انتهت العلاقة التنظيمية بينه وبين الوفد!
هذه المقدمة الضرورية هي محاولة لفهم، سبب وجود مصطلح «الوفديين»، وهو مصطلح مهم ومعبر عن وجود صفة وموصوف وبينهما تفاصيل، فالعقيدة لا تولد في ليلة، ولكنها تنشأ بعد سنوات من المواقف، والصعاب، وحب الوفد، والدفاع عنه، وحمايته من تغيير هويته وأهدافه، وحفظ مبادئه، وجعلها تضئ طريق الصعاب.
وهذا الدفاع المستمر عن «كيان» الوفد، هو «الفريضة التي لا تغيب» عن بيت الأمة، فالوفدي يبقى وفدياً حتى الممات، ولا يتنازل عن انتمائه مهما طال الزمن، ولذلك سيبقى الوفد، حياً ما بقى الوفديون، وهم أصحاب عقيدة، يتواصلون ويتناقشون ويتفاهمون، ولا تنقطع هذه الصلة على مر السنين، وهذا التواصل هو الذي حمى الوفد من الانقراض، وجعله يعود إلى الساحة بعد غياب 25 عاماً من الإلغاء الرسمي، وسنوات أخرى من البطش والتنكيل، وهنا لابد أن نحكى كيف أعاد فؤاد سراج الدين الوفد للحياة السياسية بعد رُبع قرن من الغياب.. تعالوا نحكى الحكاية!
ربما لا يكون لفؤاد سراج الدين زعيم الوفد الثالث، علاقة مباشرة بثورة 1919، فقد كان عمره وقتها تسع سنوات، وفي أقوال أخرى خمس سنوات فقط، ولكن المؤكد أن فؤاد سراج الدين، هو صاحب الفضل الأول في إعادة «الوفد» الحزب المُعبر عن ثورة 19 ونضالها، إلى الحياة السياسية، بعد غياب أكثر من 25 عاماً، رغم ما لاقاه قيادات الوفد، من اضطهاد، وتنكيل، طوال هذه المدة.
ما كان يواجهه فؤاد سراج الدين مع الوفد قبل 1952 لا يمثل شيئاً فيما واجهه الرجل بعد ذلك. لقد قاوم التشريد والمحاكمة والاعتقال لسنوات طويلة كانت كفيلة بالقضاء عليه وعلى الوفد، ولكنه وقف صامداً مناضلاً ليس له سوى هدف واحد هو العودة بالوفد إلى الحياة.
كانت بداية متاعب الرجل هي محكمة الثورة التي استهدفت سمعته وتاريخه، لكنها فشلت في إدانته، ليخرج منها كما دخلها، السياسي النزيه، الذي تولى المناصب الكبرى في حزب الأغلبية، وفي الحكومة، لكنه لم يتربح من العمل العام، فخرج من جلسات المحاكمة أقوى مما كان عليه، واقفاً، شامخاً، رافعاً رأسه وسط الناس. لكن تم اعتقاله في الستينيات، ومصادرة أمواله وأراضيه وأرصدته قبلها، حتى ينشغل بلقمة العيش ولا يفكر في غيرها، ويترك السياسة لمن هم «ليسوا» أهلها.. وقد نجحوا في شغله بالبحث عن مصدر رزق بعد أن صادروا أمواله.. لكنهم فشلوا في منعه من التفكير في مصر والوفد!
صحيح اضطر «سراج الدين» للعمل كخبير تحف ومجوهرات كي يكسب رزقه.. وكان هذا العمل يأخذ منه وقتاً طويلاً. لكنه لم يتوقف عن الاتصال بالوفديين الذين يعرفهم شخصياً من الإسكندرية إلى أسوان.
كان يفعل كل ليلة شيئاً غريباً جداً، كان يمسك بدفتر مسجل به أرقام تليفونات الوفديين وأولادهم.. وكان يجرى كل يوم اتصالاً منظماً ببعضهم، وكان الرجل يعرف أن تليفونه مراقب، فكان يفعل شيئاً واحداً خلال المكالمة، هو السؤال عن الصحة.. وكانت الجملة الثانية «إزي الأولاد» لم يكن يحدثهم عن الوفد ولا الزمن «الزفت» الذي عاشوه.. وكان يحتفظ بعناوين كل الوفديين يرسل لهم «كروت» تهانٍ في الأعياد وعزاءات عند المصائب.
ظل الرجل يتولى يومياً تنفيذ هذا العمل المجهد جداً لمدة 25 عاماً متصلة، منذ سنة 1952 وحتى أعلن «سراج الدين» عودة الوفد للحياة السياسية في 23 أغسطس عام 1977.
لم يكن الرجل يملك وسيلة أخرى للحفاظ على تماسك العلاقات بالوفديين سوى هذه الطريقة التي تحتاج إلى صبر «أيوب»، وقد فعلها وأعاد الوفد بمعجزة، وحافظ على ثورة 1919 من الاندثار، والتحول إلى مجرد ذكرى مثل غيرها، فحافظ على حزبها التاريخي، عبر الاتصال بكل الوفديين الذين كان على تواصل معهم كل هذه المدة وقال لهم: «حي على الجهاد» فقالوا له: «يحيا الوفد».
الآن الوفد يواجه خطراً أكبر مما واجهه فؤاد سراج الدين، وأخطر ما يواجهه الآن من وجهة نظري، هو عدم تماسك أبنائه عند مواجهة الأخطار، فمازالت هناك حاجة للتنبيه بأن التلاحم يحمي الجسد!
الوفديون في حاجة إلى الاتصال والتواصل والتماسك، حفاظاً على فكرة لا يجب أن تموت!!
tarektohamy@alwafd.org
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية