نون والقلم

كيف أتينا إلى هنا؟

كيف وصلنا إلى هذه المرحلة من تاريخنا؟! بالتأكيد مرّ العالم العربي بلحظات صعبة كثيرة في تاريخه، ليس فقط خلال العصر الاستعماري الذي فقدت فيه الجزائر وحدها أكثر من مليون شهيد، وإنما فيما قبله، خلال قرابة خمسة قرون من السيطرة العثمانية. في مصر وحدها انخفض عدد السكان نتيجة الفقر والأمراض، إلى أن بلغ مليونين ونصف مليون نسمة فقط، كان نصفهم من العميان، وأغلبهم مصابًا بسوء التغذية. ومع ذلك، فإن الحالة الآن وصفها خبير أميركي بأنها الأسوأ منذ الغزو المغولي للمنطقة في القرن الميلادي الثالث عشر. هناك ست دول عربية تعاني من حرب أهلية ضروس، وكل العالم العربي تقريبًا يعاني من العنف الذي يأخذ أشكالاً مختلفة، والتهديد به الذي لا يتوقف. ومنذ بدأت أحداث «الربيع العربي»، وحتى هذا العام بلغ عدد الضحايا قرابة نصف مليون، والجرحى مليونين ونصف المليون، واللاجئون والنازحون تعدوا 14 مليونًا. هذا فقط عن البشر، أما بنية الدول المادية والسياسية والاقتصادية فقد انهارت في دول بأكملها، أما إذا أضفنا تكلفة الفرصة البديلة، فإن الضائع من حياتنا ومستقبلنا لا نهاية له.

كيف وصلنا إلى هذا الحال؟! يحتاج الأمر إلى الكثير من التفكير، لأننا (شعوبا وحكومات) نتحمل قدرًا غير قليل من المسؤولية، ولا يجوز ويجب ألا يصل الحديث عن مؤامرة دولية إلى حد الهروب من المسؤولية. ربما نعود لهذا الموضوع بتفصيل أكثر فيما بعد، وسوف يكون على طريق إصلاح ضروري وممكن. ولكن ما يهمنا الآن رصد أربعة أسباب جعلت ما نحن عليه «هنا» و«الآن» ممكنًا. أولها الظاهرة التي عُرفت باسم «الربيع العربي» التي لا كانت ربيعًا، ولا كانت في كل الأحوال عربية، وإنما أيًا كانت صفاتها؛ ثورات أو هبات أو مظاهر للقلق السياسي، وبالتبعية الاقتصادي والاجتماعي، فإنها في النهاية أدت إلى نتيجتين: الأولى إضعاف مناعة الدول لمقاومة التفكك والانهيار الأمني والاقتصادي. والثانية أنها فتحت الأبواب لاستيلاء «الإسلام السياسي» على السلطة بأسماء مختلفة، من أول الإخوان المسلمين حتى «داعش». وإذا جمعنا هذه وتلك، فإن المحصلة النهائية باتت صراعات عنيفة على السلطة، وتنازعًا عميقًا على الهوية، وتقاتلاً مستمرًا على الموارد الطبيعية ماء ونفطًا.

والحقيقة أنه بات صعبًا حصر أشكال الصراع المتعددة، أو تشريح أطرافها ومكوناتها، ففيها توجد جيوش نظامية، وأحيانا بقايا لهذه الجيوش، بقدر ما فيها من تنظيمات «جهادية» تفرعت هي الأخرى وانقسمت، واختلطت معها مجتمعات إثنية، وتركيبات مختلفة من القبائل. ولم يبق صراع واحد على حاله، فبقدر البداية في بلد واحد، فإنه عادة يصبح إقليميًا، وسرعان ما يصبح دوليًا، وإذا كان ذلك واضحًا من حيث الشكل، فإن الجوهر يشهد بوجود تجمعات اقتصادية ليست بدول أو شركات، وإنما هي تركيبات اختلطت فيها دول افتراضية عبر الدول مع الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية والتجمعات الإثنية. فإذا كانت هذه الصورة تعطي تعبيرًا حقيقيًا للفوضى، فإنها تكون من ذلك النوع الذي تنطلق فيه الطبيعة البشرية من عقالها لكي ترتب شرًا لا يُحد.

الربيع العربي لم يكن وحده هو الفاعل فيما أتينا إليه، وربما بدأت القصة حقًا بالغزو الأميركي للعراق، ولم تكن المشكلة في الغزو نفسه، فقد عرفت منطقتنا أشكالاً مختلفة من الغزوات الأجنبية، ولكن الغزو تضمن مشروعًا شريرًا لتفكيك الدولة العراقية، صار فيما بعد نموذجًا يريدنا الكثيرون في الغرب أن نحتذي به باعتباره يلبي حقوق الإنسان، ويؤدي إلى الديمقراطية. ما حدث في الواقع ليس فقط أن العراق تمزق، وسقط فيه من القتلى 160 ألفًا، ومن الجرحى ما تعدى المليون، وانقسمت الدولة إلى ثلاث مناطق إثنية، وسياسيا صارت دولتين أصبحتا عنوانًا بشعًا للانقسام المذهبي بين السنّة والشيعة. وبقدر ما كان الغزو كارثيًا، فإن الانسحاب الأميركي بالطريقة التي تم بها، وبالترتيبات المخزية التي تركها، خلق فراغًا استراتيجيًا استغلته إيران بعزم وإصرار وموارد كبيرة ليس فقط في الهيمنة على العراق، وإنما لكي تمد نفوذها عبر المنطقة كلها. ولا يمكن استبعاد أن قرار إيران، ولو مؤقتًا، بتجميد إنتاجها للأسلحة النووية، كان قرارًا استراتيجيًا لتأجيل المواجهة مع الغرب، والتفرغ لمواجهة الإقليم وتوسيع نفوذها وتأثيرها السياسي والاستراتيجي فيه. ولا يمكن اعتبارها من قبيل المصادفة أن إيران بدأت بعد الاتفاق النووي في تكوين تحالفها مع العراق وروسيا وحزب الله وسوريا حافظ الأسد، ليس فقط للقتال ضد «داعش»، وإنما أيضًا لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء في سوريا.

المحصلة النهائية لكل ما سبق كانت خلق حالة من الاستقطاب الحادة في الإقليم كله تأخذ أشكالاً مختلفة من الصراع الذي جعل الحروب الأهلية تتحول إلى أخرى إقليمية، وفي سوريا واليمن تجمعت العناصر المحلية مع الإقليمية مع تلك الدولية لكي تخلق نقاط احتكاك عالمية منذرة. كل ذلك كان من شأنه أن يدفع الدول العربية، والأخرى الإقليمية، والثالثة الكونية، إلى البحث عن حل لما يجري، خصوصا بعد تزايد الضغوط الإنسانية، واللاجئين، واستغلال كل ذلك من قبل الإرهابيين الذين يهددون الجميع. ومع ذلك فإنه يبدو أن الزمن قد لا يقود بالضرورة إلى تلك الحاجة للبحث عن حل من نوع أو آخر، وإنما ترك الصراع على حاله، كما هو الحال في الصومال مثلا، حيث التغذية الذاتية تجعل الصراع الأهلي مستدامًا ومستمرًا.

هناك أولا الانتخابات الأميركية التي أصبح عمرها مديدًا إلى الدرجة التي تجعل صانع القرار الأميركي في حالة «البطة العرجاء» أكثر مما كان معتادًا تاريخيًا أن تصبح بادية منذ بدء المناظرات للانتخابات التمهيدية. هنا يظهر التردد الأميركي في التعامل مع الواقع في المنطقة، والتأقلم مع الحقائق الجديد التي ترتبت على الوجود العسكري الروسي والإيراني المباشر على الأرض السورية. وهناك ثانيًا الظروف الدولية التي تقول لنا إن الشرق الأوسط، والعالم العربي، على أهميتهما، لا تتوقف حياة العالم عليهما. فالرياح المقبلة من أوروبا فيما يخص الأزمة الأوكرانية منذرة، بل إن التحركات الروسية نحو الشرق الأوسط لا يمكن فصلهما عنها. والرياح المقبلة من بحر الصين الجنوبي، حيث قامت الصين باختراق قاعدة حرية الملاحة في البحار المفتوحة، من خلال بناء جزر حولتها إلى مطارات أو حاملات طائرات تطالب بوضعها قانونيًا ضمن حق السيادة للدول على أراضيها. وهناك ثالثًا ما يبدو عودة للأزمة الوحيدة التي عُرفت بأزمة الشرق الأوسط، وهي الصراع العربي – الإسرائيلي، إلى الظهور مع قيام المستوطنين والمتطرفين الإسرائيليين بالاعتداء على الحرم الشريف وما نتج عنه من ضحايا على الجانبين، موحية بانتفاضة فلسطينية جديدة.

هذه الاتجاهات الثلاثة سوف تلقي بظلالها، أردنا أو لم نرد، على الشرق الأوسط كله، والعالم العربي تحديدًا. أرجو ألا تكون الصورة سوداء داعية إلى اليأس، وإنما شارحة بصدق للحالة التي نعيش فيها، وما يمكن أن تؤدي إليه إذا ما تركت الأمور على ما هي عليه.

 

أخبار ذات صلة

Check Also
Close
Back to top button