نون والقلم

طارق تهامي يكتب: اللقاء التاريخي بين سعد زغلول ومصطفى النحاس

اللقاء الأول بين سعد زغلول ومصطفى النحاس له حكاية طريفة، وحدث اللقاء في عام 1909، عندما كان مصطفى النحاس يشغل موضع العضو الشمال في إحدى الدوائر القضائية، بمحكمة القاهرة في الدائرة التي يرأسها صالح حقي باشا.

وأثناء نظر إحدى القضايا مال رئيس الدائرة على عضو اليمين وتحدث معه، ثم مال على عضو الشمال مصطفى النحاس وقال له باستخفاف: سنصدر حكمًا بكذا، فقال النحاس: أنا لي رأى آخر ويجب في هذه الحال الانتقال إلى غرفة المداولة.

ولكن حقي باشا لم يستجب لطلب النحاس ونطق بالحكم، فما كان من الأخير إلا أن قال لكاتب الجلسة بصوت عالٍ وعلى مرأى ومسمع من جمهور المتقاضين وغيرهم من المواطنين داخل قاعة المحكمة: أكتب أنه لم يؤخذ برأي عضو الشمال في هذا الحكم.

وحدثت ضجة كبرى داخل القاعة طبقًا لما سردته الكاتبة الكبيرة سناء البيسي، ما اضطر حقي باشا إلى رفع الجلسة والانتقال إلى غرفة المداولة، وترتب بعدها بطلان الحكم، ولم يجد حقي باشا ما يشفى غليله إلا أن يشكو النحاس إلى وزير الحقانية وقتها سعد زغلول الذي استدعى إليه النحاس لتكون المقابلة الأولى بينهما التي أسفرت عن اعتزازه بموقف النحاس، فأصدر قرارًا بنقله قاضيًا جزئيًا تكريمًا وإعجابًا بشجاعته.

وتمضى مسيرة سعد زغلول الوطنية ليتم تأليف الوفد المصري في نوفمبر 1918 استعدادًا للسفر إلى بريطانيا من ثلاثة من المنتمين للحزب الوطني كان النحاس أحدهم، ومن يومها أصبح النحاس سكرتيرًا عامًا للوفد وأقرب الشخصيات إلى قلب سعد، وعندما اشتعلت ثورة 1919 كان زميل المنفى، بعدما اعتقلت السلطات سعد زغلول ومصطفى النحاس وفتح الله بركات وعاطف بركات وسينوت حنا ومكرم عبيد في 23 ديسمبر 1921 وقامت بنفيهم إلى جزيرة سيشل، وأمام الثورة العارمة للشعب اضطرت إنجلترا إلى إطلاق سراح الثوار.

سيرة مصطفى النحاس تستحق أن يعرفها الناس لأنها تمثل قصة رجل وهب حياته لوطنه بلا ملل. فقد واجه صعوبات في حياته ولم ينحنِ يومًا أمام طغيان القوة الباطشة. ولم يتراجع أمام طوفان السلطة، لتبقى سيرته نقية لم يلوثها فساد، حتى إنه مات عام 1965 وهو لا يملك ثمن الدواء.

وكان رأى سعد زغلول في النحاس غريبًا جدًا.. فقد كان يسميه «سيد الناس» وقال عنه «سريع الانفعال ولكنه لا يتغير بتغير الأحوال، وطني مخلص.. وهو فقير مفلس، ذكي غاية الذكاء.. وفي كل الوفاء، وله في نفسي مكان خاص.

وعندما نتكلم عن ثورة 1919، يجب أن نتحدث عن واحدة من أهم إنجازاتها السياسية، ألا وهي ظهور أهم شخصية سياسية ظهرت في مصر بعد سعد زغلول، خلال القرن الماضي، شخصية الزعيم مصطفى النحاس، فعندما نسرد تاريخ الثورة يجب أن نقول إن من أهم إنجازات ثورة 1919 إنتاجها وولادتها لشخصية تاريخية لا تتكرر، هي شخصية الزعيم الجليل، زعيم الأمة، سيد الناس مصطفى النحاس، فقد اثبت بظهوره وقدراته، أن الوفد مدرسة متفردة في الزعامة والوطنية.

الزعيم الجليل مصطفى النحاس، هو أحد أهم شركاء سعد زغلول، في قيادة ثورة 1919، وكانت حياته مثل وفاته.. فقد عاش حياته زعيمًا مناضلًا يقاوم الاحتلال ولا يسعى إلى الحكم.. بل كان الحكم هو الذي يأتي أمامه وتحت قدميه.. وقد مات الرجل-أيضًا- زعيمًا، فخرج الناس من بيوتهم يوم 23 أغسطس 1965 ينحبون ويبكون رحيله.

كانت جنازة مصطفى النحاس هي الدليل الأهم والأكبر على زعامته.. كانت مهيبة.. حاشدة.. في عز مجد جمال عبد الناصر الذي صدمته هذه الحشود التي خرجت لتشييع رجل كان يعتقد أن سيرته قد ماتت قبل وفاته بثلاثة عشر عامًا قضاها تحت الإقامة الجبرية.. وكانت الصدمة الكبرى التي واجهها عبد الناصر هي الهتاف الرئيسي لمئات الآلاف الذين قالوا في الجنازة «لا زعيم بعدك يا نحاس».

عاش النحاس معظم حياته معارضًا.. وذاق طعم الحكم لكنه لم يبع وطنه من أجل الحصول على الأغلبية أو من أجل رئاسة وزراء.. ثم قضى ما تبقى له من عمر مغضوبًا عليه من الحكام الجدد.. لكنه أبدًا لم يلن ولم يقل كلمة يحاسبه عليها التاريخ. فقد كان مدافعًا صلدًا عن الديمقراطية والوطن الذي كانت مصلحته فوق كل اعتبار.. وعندما تراجع سيرة مصطفى النحاس السياسية ستجده قضى معظمها في صفوف المعارضة رغم أنه كان الزعيم الأوحد في زمنه.. وحزبه «الوفد» صاحب الأغلبية.. لكنه كان يفضل المعارضة بشرف.. ورغم أنه تولى رئاسة الحكومة خمس مرات. إلا أن أطول فترة قضاها في الحكم لم تزد على عامين. لأنه كان يقول دائمًا «يحيا الثبات على المبدأ».

‏tarektohamy@alwafd.org

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا

 

t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى