أردد هذه الجملة لنفسي كل الوقت، خاصة عندما أرى مناطق عمل – وهي كثيرة جدًا هذه الأيام – بـ«تشغي» بالعمال والصنايعية والمهندسين.. والتراكتورات والأوناش وعربات الخلط الآلية للأسمنت والقار والزفت إلخ.
تسول لي نفسي أن أنزل لأتحدث معهم. تحديدًا ابحث في كل الوجوه عن وجه واحد فقط.. هو الذي تؤول إليه الأمور كلها فيما بعد، هو الذي يتعهد الخلطة كلها.. هو الذي يسلمنا إما الى النعيم أو إلى الجحيم! وحده لا أحد غيره، هو الذي يملك هذا المفاتيح. هو الذي يستحق أن نكّرِمه أو نكْرمه ونوسعه نقدًا وربما أكثر من هذا.. من دون أن تطرف أو ترف – لنا عين. إنه مهندس الاستلام. ذلك الذي يكلف من قبل الحكومة، وينوب عنا نحن الشعب في استلام المرفق الذي يجري العمل فيه، وهو الذي يدقق ويمحص ويفتش ويقيس ويعاين ويقارن ويلاحظ.. هو الذي يفهم «فولة المشروع».. ويكشف لنا هل الأسياخ الحديدية مطابقة للمواصفات؟ هل هي حديد ١٠«لِنْيّه» طبقا لشروط المناقصة، أم أن شركة الباطن التي تعمل من تحت «باط» الشركة الفائزة بالمناقصة تلاعبت واستخدمت حديد ٥”لِنْيّه ” كما نعرف بمرور الوقت عندما تظهر عيوب الخلطات، بأسمنتها القليل المنتهي الصلاحية، الذي قد يتسبب في إسقاط العمائر مثل كوم تراب.. أو بعدم وضع «دقشوم» على الطرق بنسب صحيحة، وعدم استخدام البيتومين كماده اساسية في خلطات رصف الشوارع، ما يجعلها بعد قليل من الاستخدام «تِقِبْ» وتنبعج من المنتصف وتتآكل من الأجناب.. ويتحول الطريق الذي كان لامعًا كمرآة إلى مجرد «مِدّق» مليء بالأخاديد والندوب والحفر !
هذا المهندس حياتنا بيديه، إذا وقع بصدق وأمانة على أوراق عمارة وتسلمها من المقاول المنفذ مطابقة للمواصفات فهذا عمله، أو أن يوقع بتوقيعه الميمون موافقًا على المشروع غير المطابق للمواصفات، فهو المسؤول الذي يجب أن نقتص منه، لأنه تسلم الطريق أو العمارة أو مشروع الصرف الصحي او غير ذلك «عمياني.. دكاكيني.. كتيمي». هنا تكمن الكارثة وبالتالي الخلطة «تبوظ» وتفسد وندفع الثمن مرات عدة: مرة لأننا خسرنا أموال الرسوم و الضرائب، ومرات لأننا سنواصل السير على طرق المعاناة، فتتكسر قلوبنا وتتحطم سكينتنا وأماننا على هذه الطرق المتكسرة المدحضحة، والتي منينا أنفسنا بتحمل بعض عذاب المرور عليها أو التحول عنها لطرق مشوهه أو أكثر اهتراء وتكسرا، وما يتواكب مع ذلك من ازدحام شديد في الحقيقة نتيجة اللخبطة المرورية التي في الحقيقة لا يبرع جهاز المرور عندنا في حلها مهما كانت بداياتها محدودة، فما تلبث أن تتسع تحت سمع وبصر رجل مرور «عامل نفسه من بنها!».
«آه لو ظبطت الخلطة» ليست مجرد كوكتيل من «الأوناش» أو غابة من العمال من مختلف الأجناس والمهارات والحرف، وليست مجرد أنواع شتى من مستلزمات المشاريع كالأحجار والأسمنت والحديد والجبس، ولكنها خلطة في يد هذا الرجل الأسطوري العجيب الذي نسلمه رقابنا.. إنه ذلك الرجل الذي «يلاحظ» كل شيء، وتستأمنه الدولة على حياتنا ، وتجعل لتوقيعه السحري بالاستلام قيمة عليا.. وهو وحده الذي يقول: نعم الخلطة «مظبوطة.. أو لا..الخلطة باظت». إنه أخطر رجل في الحياة.
يا هذا الملاحظ.. لاحظ أن حياتنا كلها بين أيديك!.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية