نون والقلم

تزدحم السماء فتضع الحقيقة

لم يعد للنجوم مكان.. ضاقت السماوات بها، رحلت كلها لا الليل يزهر بأقماره ونجومه ولا النهار ببعض من غيومه الراقصة فى سماء صافية.. لم تعد السماوات كما تغنى بها حتى إنه لم يعد للكلمة معنى عندما تقول لاحداهن «انت قمرى» فهناك اقمار كثيرة لا تشبه تلك التى تتزين بها سماواتنا فى ليل شديد الصفوة.. لذا فلم تعد هى علامة للجمال والرقة.

هربت العصافير التى كانت السماوات ملاعبها، راحت تبحث عن فضاء تحلق به بعيدا بعيدا.. هربت كلها حتى الغربان والصقور!! لم يعد فى تلك السماوات سوى فضاء مزدحم بهم.. هذا فضاء مختلف ملأته محطاتهم الناطقة بكل اللغات الا لغة الواقع وربما بعض الحقيقة المغلفة بقطيفة الكذب والتحويل والتحريف.

هناك حسب الاحصائيات اكثر من 500 محطة ناطقة باللغة العربية وبالتأكيد هناك محطات اخرى غير رسمية أو تبث على شبكة الانترنت. اذن فالمواطن العربى فى مختلف بقاع العالم يمتلك تعددا فى مصادر معلوماته بمعنى انه وبالشكل المثالى يستطيع ان يحصل على الخبر والمعلومة من اكثر من مصدر. الا انه عندما تبحث عن اسماء المالكين لمعظم هذه القنوات تجد نفسك امام مجموعة صغيرة من الاشخاص أو المؤسسات أو حتى الحكومات والدول العربية وفى ذلك احتكار كبير. فحتى المحطات التى لا تملكها حكومة أو مؤسسة معينة تحصل على دعم من احدى تلك الحكومات أو المؤسسات وبذلك فيبدو الواقع اكثر شمولية واقل تنوعا واكثر تقييدا على نوعية الخبر وكيفية توجيه نشرات الاخبار بل واحيانا البرامج الحوارية وحتى الترفيهية منها.

•••

فى الماضى وقبل ازدحام الفضاء بهم بتلك الاجسام التى تتلون حسب سياسات بلد ما أو مالك ما، كانت الكثير من الحكومات تعمل بجهد للسيطرة على مضامين الدراما وكان البعض يسخر من بعض المفاهيم المتحجرة التى كانت تفرض على المسلسلات والبرامج من اجل تسويقها فى مجتمعات معينة ضاقت فيها كل المفاهيم والحقوق حتى اصبحت تبرر لذلك باسم الدين تارة واحيانا باسم العادات والتقاليد!!

للعربى ان يحزن اليوم كثيرا فكلما اتسع الفضاء ضاقت المعرفة، أى معرفته هو بما يجرى على ارضه أو ارض جاره أو جار جاره.. لم تعد تعرف من هو المنتصر على ارض المعارك الحامية سواء منها العسكرية أو المعارك السياسية والثقافية.. كلها حرفت، كلها وُجهت، كلها تحولت إلى ادوات فى يد السياسات الكبرى والمنافسات الكونية!!

لو طلب احدهم لك ان تصف المشهد اليوم فى احدى المدن المنكوبة حتما ستجد اكثر من رواية لنفس الخبر.. يزداد قلقك على الحقيقة، ترنو لتبحث اكثر، تدير المفتاح بيدك لأكثر من قناة تكتظ الصور وتختلط حتى تعبت الكاميرا من كثر الكذب والزوايا المحددة والضيقة جدا.. نعم الكاميرا تكذب أو تجمل أو تقبح حسب حاملها وموجهها ورئيس تحريرها.. نعم لا توجد حقيقة مطلقة ولكننا تعبنا من البحث والاكتفاء حتى بانصاف الحقيقة التى تختبئ تحت أغطية مختلفة ساعة باسم الدين واخرى باسم الدفاع عن حقوق الانسان وثالثة باسم الطائفة المعذبة هنا أو هناك المضطهدة من قبل هذه الفئة أو تلك.

فضاء وأقمار صناعية تعكر صفو سمائنا التى كانت راكدة دون هذا الكم من التشويش وكنا فى انتظار الفضاء الذى سيشع نورا ويضيف لنا معرفة وعلما، فكان أن تحول الفضاء هو الآخر لمساحة لزرع الكثير من التشويش على الحقائق وتضليل الواقع والدعاية الرخيصة احيانا والتحريض المبطن أو الواضح كثيرا وفى كل هذا كما قال ذاك ومنذ عقود ان الحقيقة هى الضحية الاولى فى الحروب والنزاعات.. والحقيقة هنا فى هذا الواقع الذى يزداد حلاكة مع كل يوم يبدو أن كل هذه الاجسام التى ازدحمت بها سماواتنا لم تفعل سوى أنها زادت من الجهل والتشويش والتفرقة والتمترس السياسى والتعصب المذهبى، وكله باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان المعدومة اصلا فى كل بلاد العرب، الممتدة على بحر من الرمل المتحرك، وفوق فضاء من المحطات المنغمسة فى لعبة سياسية تحمل رائحة خاصة جدا ليس مثلها سوى الصراعات على الاقليم كله.. ليتهم يخفضون أصواتهم، فالفضاء مزدحم اصلا والسماء لم تعد مسكنا للنجوم الشاردات الساطعات، بل مرتع لنوع خاص من الهزل المبكى!!!

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى