تمر اليوم ذكري عيد ميلاد الأديب العالمي نجيب محفوظ. أول عربي مصري يفوز بجائزة نوبل في الأدب. كان ذلك مجدا لم يسبقه إليه أي عربي ومصري في ذلك الوقت. ولا حتى أي أفريقي باعتبارنا ننتمي إلى القارة السمراء. فيما بعد ذلك بكثير ذهبت الجائزة إلى مبدعين من أفريقيا. بعده من مصر حصل عليها النابغة أحمد زويل. ولكن في العلوم وليس في الآداب.. والبرادعي ولكن في السياسة هذه المرة.. فقد نال جائزة نوبل للسلام.
كان حصول محفوظ عليها فتحا كبيرا.. وكان بالنسبة لي سبقا خطيرا.
والذي حدث أنني بينما كنت في مكتبي بجريدة الأنباء الكويتية (مكتب القاهرة) في العمارة المملوكة لآل الصباح.. والمجاورة لفندق شهر زاد المطل على نيل العجوزة وجدت آلات التيكرز تدوي في مكتب الأستاذ جميل الباجوري مدير المكتب آنذاك.. عليه رحمه الله.. وعندما قرأت الشيت الخاص بالوكالة أصبت بالذهول.
كان الخير يقول إن الأكاديمية السويدية قررت منح جائزة نوبل في الآداب لعام 1988 للكاتب والأديب المصري نجيب محفوظ. قفزت من مكتبي كالفراشة.. وأنا أقول لمدير المكتب «ابعت لي المصور على كافتيريا فندق شهرزاد.. وبسرعة كنت أمام الأستاذ نجيب محفوظ.. وأقول له بصوت متقطع الأنفاس «مبروك يا أستاذ.. فزت بجائزة نوبل للأدب هذا العام. ألف مبروك لمصر وللأمة العربية بأسرها».
ابتسم الأستاذ بهدوء شديد.. ولكن ملامح وجهه كانت تلمع بشرا وتتألق فرحا.. وقال لي بعينين متسائلتين كيف علمت بالخبر؟ قلت بسرعه قراته الآن على التيكرز.. أنا (فلان) وأعمل صحفيا بجريدة الأنباء الكويتية.. ومكتب الصحيفة في العمارة الملاصقة للفندق. وحاولت قدر المستطاع استنطاق الرجل المأخوذ بالخبر الصاعق لنا جميعا في ذلك الوقت.. فلم يكن بريق نوبل قد خبا أو تتعرض الجائزة للتشوه كما تعرضت فيما بعد.. وقيل فيها ما يقال في الخمر.
وأن هي إلا لحظات حتى وصل المصور سمير صادق واخذ يلتقط لنا صورا كثيرة أرسلناها مع السبق الذي احرزته في رسالة بالفاكس كان محددا لها يوميا السادسة مساء.. وكانت الأنباء تعتمد على رسالة مكتب القاهرة إلى حد أنها كانت تمثل أهم المواد في عدد الجريدة.
والحقيقة أنني ربما لم أدرك قيمة اللحظة ولا خبطتي الصحفية في حينه نظرًا لكثافة وحجم التغطية الإعلامية التي رافقت الإعلان عن فوز محفوظ بالجائزة. وقتها ضاعت في الزحام «خبطتي الصحفية» الكاملة بامتياز.. ولقد سمحت لها أيضًا أن تضيع.. كان الطوفان جارفًا.. والإعلام من كل حدب وصوب ينهال على بطل الحدث.. فلم يتح لي مجال لرواية الحقيقة. والحقيقة أن صدور مذكرات محمد سلماوي في جزئها الثاني المعنون (العصف والريحان) أتاح لي فرصة استعادة السبق الضائع، وتصحيح جزء من تاريخ هذه اللحظة التي كادت أن تذوي بمرور الوقت.
ففي الصفحة رقم 110 من مذكرات «العصف والريحان» أورد الأستاذ سلماوي مايلي: «وقبل أن أصل إلى منزل محفوظ كانت زوجته السيدة عطية الله قد أيقظته من النوم وأبلغته أنه فاز بجائزة نوبل لكنه لم يستسغ تلك الدعابة وطلب منها أن تكف عن المزاح وتتركه ينال قسطه المعتاد من الراحة» لم يكن ذلك دقيقا، فالسيدة عطية الله لم تخبر الأستاذ بذلك ولم تكن لديها المعلومة لسبب بسيط هو أن الأستاذ نجيب محفوظ لم يكن في منزله في تلك اللحظة، ولكنني كنت معه، نجلس معاً على كافتيريا فندق شهرزاد المطل على نيل العجوزة. والذي لاشك فيه، وتدعمه الصور والمادة الصحفية المنشورة بجريدة الأنباء في صدر صفحتها الأولي في اليوم التالي مباشرة للحدث (الجمعة 14 أكتوبر 1988) ، وثيقة «قطعية الثبوت والدلالة».. تروي حقيقة من أبلغ الأستاذ نجيب محفوظ بفوزه بنوبل.. وهل هي زوجته أم أنا ؟
الحقيقة أن «محفوظ» اعتاد الحضور يوميًا (خلال العام 1988 على الأقل) إلى فندق شهرزاد.. ليجلس في الهواء الطلق على الكافتيريا المواجهة للنيل.. (أغلقت لأسباب أو لأخري الآن) .
كان الفندق ملاصقا تماما لعمارة مملوكة لآل الصباح، وكانت جريدة الأنباء الكويتية التي عملت بها في عصرها الذهبي قد استأجرت شقة بطابقها الأول، وكان مصور المكتب الوحيد – والذي شهد أغلب أزمات حواراتي وخبطاتي الصحفية – زميلنا سمير صادق .
كنت بالمكتب عصر يوم الخميس 13 أكتوبر سنة 1988، حينما علمت بالخبر السعيد. كنت قبل صعودي إلى مكتبي في هذا المساء لمحت الأستاذ جالسا بالكافتيريا. (كان بانتظاري على نفس المقهى كالمعتاد أيضا الكاتب والسيناريست فتحي سعد الذي شهد اللحظة). أقبلت على الأستاذ نجيب وأبلغته بالنبأ.. ثم وجدتني أمطره بالأسئلة عن مشاعره ورأيه الخ.. ثم جاء المصور، وجميل الباجوري نفسه، وأمطرناه بالصور، وبينما نوشك على الانتهاء وصلت كريمته بسيارة مرسيدس – تبدو في الصورة – لترجع معه إلى البيت، وللأسف الشديد أنني لم أتمكن من التحدث إليها، ربما من مفاجأة اللحظة.. ولعلها بالتالي لم تعرف أننا صحفيين وأن مكتب صحيفتنا (جريدة الأنباء) ملاصق للمقهى أو الفندق، وأنني الصحفي الذي كان أول من أبلغ الأستاذ بفوزه بنوبل. في اليوم التالي حاورته في مكتبه بالأهرام، ثم التقيته مرارا انا وزميلي مصطفي بدر رحمه الله، ونشرنا له حلقات بعنوان 60 ساعة مع نجيب محفوظ.
هذه هي الحقيقة التي يوجد شهود عليها حتى الآن ومن أسف أنها حقيقة تحجبها الصحف أو يتغافل عنها الكتاب، رغم أن الصحفيين والمصور والسكرتارية بالمكتب وحتى مدير تحرير الجريدة يحيي حمزة مازالوا أحياء يرزقون.
تلك قصة سبقي الصحفي مع الأديب العالمي أتذكرها في عيد ميلاد تكريما للحظة الأغلى في حياته.
تحية إلى روح أديبنا الجميل نجيب محفوظ في يوم ميلاده.. أحلي عيد.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية