في مطلع شهر يوليوز، رافقت بعض زملائي من مؤسسة الأطلس الكبير – منظمة أمريكية مغربية غير ربحية – لزيارة عدد من التعاونيات الفلاحية في المغرب لفهم احتياجاتهم وتفقد أهدافهم من أجل وضع خطط عمل تضمن لهم الوصول إلى التنمية المستدامة.
وأثناء الرحلة، صادفنا على طول الطريق بعض المقابر اليهودية والمسيحية، فقررنا زيارتها والتقينا بالقائمين على رعايتها من أفراد القرية المجاورة بنية اكتشاف أسرار وتاريخ هذه المدافن.
كانت هذه أول زيارة لنا إلى المدافن اليهودية والمسيحية في الجهة الشرقية الشمالية بضواحي مدينة بركان. وبعمر فاق 300 عام، استقرت المقبرة اليهودية خلف منزل المشرف عليها، السيد سعيد، حفيد أول شخص عُهد إليه بمسؤولية صيانتها.
ومن بين آخر من وارى جثمانه الثرى هناك كان إستر وبينون، زوجان فقدا حياتهما في حادث سيارة عام 1964. يتذكر سعيد جيدا دفن الخطيبين الذي جرت مراسيمه يوم الجمعة.
في ظل انتشار الجائحة، تعذر على الزوار التردد على المقبرة منذ عام 2019. غابت الزيارات فغاب المساهمون الذين طالما حرصوا على جز العشب الزائد وتوفير تعويضات مادية لسعيد. وبالعين المجردة، قدرنا أن عملية جز كل العشب المتراكم ستتطلب مجهود خمسة أشخاص يعملون لمدة سبعة أيام متواصلة، فعملنا حينها على توفير الميزانية المطلوبة من جهة مساهمة خاصة. بعد انتهاء الأشغال، صارت ممرات المقبرة أوضح، وتلاشت الفرشاة الشائكة والعشب المتناثر، وأصبحت أشبه بتلك الأرواح الشابة التي تشير إليها المنحوتات على شواهد القبور، أرواح عادت إلى بارئها قبل أن تشيخ أو تنضج تحت شمس الحياة.
يلاحظ أن محيط المقبرة المسيحية في بركان أكبر من المدافن اليهودية المجاورة، وآخر من دفن بها كان رجلًا نبيلًا يملك مقهى، وافته المنية في منتصف الثمانينيات. كان يعرفه السكان المحليون باسم باكو. وكانت كثافة الأعشاب هنا بادية نظرًا لانتشارها بشكل أكبر، لكنها أخف من ذلك في المقبرة اليهودية.
وأكد السيد سعيد المشرف على المدافن أنه، رغم عدم تسلمه أي تعويضات، إلا أنه ملتزم بحمايتها ومراقبتها. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن الحماة الفعليون هم ساكنة بركان، فالشعب المغربي، في هذه المنطقة وفي جميع أنحاء المملكة، مجبول على احترام قبور جميع التوجهات الدينية التي تشكل الهوية الوطنية للبلاد.
في اليوم الموالي، انتقلنا إلى قرية أحفير في نفس المنطقة وقمنا بزيارة مدافن اليهود. فالتقينا بالمشرف عليها، السيد عبد الرحيم، بمعية والدته. توفي والده عن عمر يناهز 48 عامًا إثر إصابته بعدوى دموية نادرة نوعاً ما.
عبد الرحيم هو أيضًا وصي من الجيل الثالث على هذه المقبرة، وقد ظل يقوم بمهامه في السنوات رغم غياب التعويضات. يعيل عائلته الصغيرة، بما في ذلك شقيقيه، ويكسب المال بدوام جزئي كنادل في مقهى محلي حيث يتلقى 60 درهمًا (7 دولارات) في اليوم، لكنه يكافح من أجل استقرار الأسرة. ويطمح عبد الرحيم لأن يكون من رعاة التراث الوطني، لكنه يصطدم بضرورة البحث عن قوت يومه خارج القرية من أجل إعالة أسرته.
تُذكرنا ظروف عبد الرحيم بقصص لا حصر لها يعيشها شباب الريف المغربي، يفضلون العمل وكسب الرزق في قراهم المحلية للرقي بها، لكنهم ملزمون بالبحث عن عمل في المدن من أجل إعالة أنفسهم وعائلاتهم قبل كل شيء. بكل صدق وعواطف جياشة، لمسنا أن والد عبد الرحيم، السيد محمد، كان رجلاً لطيفًا يفتقده أهله بشدة.
ربما نحتاج إلى حقبة كاملة لسرد الحكايات التي ترويها هذه المقابر، لكنني أشعر بانجذاب يصعب تفسيره نحو قصص القائمين على رعاية هذه المدافن، أناس توارثوا هذه المسؤولية من جيل إلى جيل بصدر رحب.
وبعبارة أخرى، لقد نشأوا على حماية التراث – أسلوب عيش وسنوات من الكفاح الاقتصادي. قد لا يكون هذا هو الحال مع جميع المقابر في المغرب، خاصة كلما دنونا أكثر من مركز المدن. ومع ذلك، في هذه القرى النائية والمنعزلة، الشاهدة على تلاشي ذاكرة التراث، يواظب الأشخاص المشرفون على رعاية المدافن حتى مع ندرة الدعم المالي، وفي بعض الحالات – مثل من صادفناهم في رحلتنا – فهم لا يحصلون على أدنى تعويض.
خلال فترة تواجدنا بقرية أحفير، قررنا زيارة مآثر البناية التي كانت ذات يوم كنيسًا يهوديًا. وبالنظر خلف الجدران القديمة السميكة، كانت القاعات الداخلية مهدمة في بعض الأماكن وتتخللها أشجار وأعشاب بارزة وأكوام القمامة. كما لو أن الزمان نال منها، وربما صحت مقولة أن ما تخلفه الثقافات وراءها سرعان ما يضيع باندثار من يخلدون ذكرى تلك الثقافات.
وعلى الرغم من ذلك، يمكن الجزم بأن حياة اليهود والمسيحيين المغاربة لم تقتصر على جيوب الأقليات الخاصة من الناس، بل كانت لبنة في حياة المغاربة وجزئا لا يتجزأ من هوية المغرب. ما إن نتغافل عن وجودها وتأثيرها في المجتمع، وإذا تناسينا الحفاظ عليها، فقد يضيع جزء أساسي من هوية المغرب نفسه بصفة نهائية لا رجعة فيها. يقال إن الشخص يُنسى بمجرد رحيل آخر من يتحدث باسمه أو يحيي ذكراه. وقد لا يقتصر فضل إحياء الذكرى على تذكر المرحوم فقط، بل وإن باقي الأشخاص الذين يتذكرونه حتما سيكتشفون في أنفسهم وفي الوسط الذي يجمعهم إحساسًا بروح السلام والتضامن.
عدنا لزيارة ضريح القديس اليهودي دافيد أو موشي يوم 7 يوليوز، وتفقدنا مشتل الأشجار المثمرة القروي الذي تم بناؤه على سفح الجبل المطل على مرقد القديس، على مساحة تمتد لهكتار واحد.
وألهمني الموقع إلى قناعة مفادها أن قبلة الحجيج هذه التي يبلغ عمرها ألف عام هي أبرز شاهد في حياتي بأن تطور وازدهار البشرية ما هو إلا نتيجة المثابرة والعزيمة ممزوجة بحسن الطالع. قبل اكتشافي حقيقة أنها كانت مقبرة يهودية مغربية في منتصف التسعينيات، كنت أظنها أرضًا قاحلة ومتآكلة على منحدر جبلي، مع بيت أبيض قديم جميل بشكل يصعب وصفه، لقد بدا لي أنه يندمج مع المحيط، وفي نفس الوقت يبدو كدخيل في هذا المنظر الطبيعي، مستقر على الجانب الجنوبي من جبال الأطلس الكبير. فشعرت حينها أن هذا الجبل يمكن تسويته واستغلاله لإنشاء مشتل الأشجار الذي قد يمنح الناس فرص الانتقال من الاقتصار على زراعة الشعير والذرة إلى زراعة الأشجار المثمرة العضوية المدرة للدخل المرتفع، مثل الجوز والكرز والتين.
وبعد مرور ربع قرن من الزمن، بفضل تمويلات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وبدعم مباشر من جلالة الملك محمد السادس، تحققت الرؤيا فنزل المشتل إلى أرض الوجود. انضاف إلى ذلك مبادرة السيد سيرج بيردوغو، الأمين العام للجالية اليهودية المغربية، الذي ساهم بمنح المنطقة الجبلية المطلة على ضريح القديس دون تكلفة ليتم استغلالها من القرى المجاورة. هكذا تصبح الأحلام حقيقة، إذا آمنا بها وتمسكنا بالعمل عليها.
في وقت لاحق من اليوم نفسه، قطعنا مسافة 50 كيلومترًا شرقًا على طول نفس الطريق. ووصلنا إلى منبع أحواض مياه سوس لزيارة منتزه توبقال. بدت الحياة اليهودية حتى الستينيات جزءًا من الحياة الطبيعية هنا، حالها حال نهر تيفنوت وتلك القمم الشامخة في الجوار. لكن الغياب المستمر لأي جدار، أو فواصل توضح الحدود. قد ينجم عنه اختفاء تلك الحقبة من تاريخ المنطقة. فالمدافن اليهودية في إيمليل (سوق الأربعاء) لا تزال قائمة تنتظر مبادرة لحفظها. وحيث لا يرعى الناس ماعزهم وأغنامهم هنا احترامًا لقدسية المكان، فقد انتشر العشب الطويل في كل أرجاء المقبرة.
عادت إلى ذكرياتي أيامي في هذا الموقع كمتطوع هيئة السلام من 1993 إلى 1995 في قرية أخرى تسمى أمسوزرات. كانت تلك أكثر الأوقات التي نعمت فيها بهدوء غير مسبوق، كنت أجالس رب المنزل الذي عشت فيه. السيد عمر حيمي رحمه الله، وافته المنية في عام 2019 عن عمر يناهز 103 أعوام.
ناقشنا مواضيع حول حياة المسلمين واليهود في هذه المنطقة بالذات. حياة تعج بالتضامن رغم الاختلاف. انتشر التآخي بين الناس، وكان هناك اندماج وتكامل بين أفراد المجتمع. جمعت روح المحبة بينهم، وتوطدت الروابط البشرية، وكان كل فرد يحزن بصدق لفقدان جار عزيز.
كانت الحياة معقدة لكن عملية في الوقت نفسه. بعبارة أخرى، لم تكتمل الصورة، وظل جزء منها غائبًا. تفاصيل كانت لتخلق تغييرا ملحوظًا في تاريخ المنطقة، غير أنه تم كبحها أو التغافل عنها حينها. هكذا قادتني هويتي، كوني يهوديا عراقيا أمريكيا من الجيل الأول. إلى الاكتشاف هذا التراث الثقافي الزخم، فغمرني الشوق لعيش تجربة تراثية قد لا يحظى جيلي بتكرارها. وربما شعرت بالامتنان لأن الزمان الحديث يتسم بانسيابية أكبر، وبالمزيد من الفرص التنموية.
انطلقنا من منتزه توبقال، بين جبال تارودانت، فتوجهنا نحو مناطق أخرى في قلب إقليم سوس، وقمنا بزيارة قرية تيسفان. توجد مقبرة يهودية طالها النسيان وهجرها معظم السكان المحليين، فلا يعرف بوجودها إلا البعض نظرا لتراكم الحجارة المستقيمة حول المدافن.
وبجانب المقبرة، يوجد ضريح قديس يُدعى شانون، ضريح يزوره عدد كبير من الساكنة المحليين في موسم الحج السنوي في فبراير، دون أن يدركوا أن من يرقد تحت الثرى هو شخص يهودي مغربي. عُهد على المغاربة تقديرهم للقديسين اليهود المغاربة، وقد لقي ضريح تيسفان نفس التقدير. لم يكن من داع إلى تعين شخص يشرف على القبور، فهي مهمة يؤديها كل فرد في القرية، صغيرهم وكبيرهم. وبخصوص تحسيس الشباب وتوعيتهم حول هذه الجوانب من تراثهم، فإن كبار السن لا يملون من رواية القصص والحكايات لأحفادهم. هكذا يمكن تركيز مساهمتنا، أو واجبنا إن صح القول. في العمل على جمع هذه المعلومات الجوهرية والقيمة المتداولة هنا من أجل حفظها. لن يعيش هؤلاء الشيوخ إلى الأبد، لكنهم معنا الآن ومستعدون لمشاركة كنزهم الثقافي إذا طُلب منهم ذلك. دعونا نبادرهم بالسؤال، ثم نستمع لسردهم، فنجمع حكمتهم لنشاركها قبل مرور السنين ورحيل حملة الذكريات. حدث ستتلاشى معه هذه الذكريات إلى الأبد.
بعد جلسة تأملية حول ما كشفت عنه هذه الرحلات، لا يسعني إلا أن أستخلص بأن الوقت يداهمنا. بل إن علينا التصرف بشكل مستعجل. فالشعب المغربي على استعداد الغوص إلى ما لا نهاية في تاريخ ثقافته واستكشاف ماضيه. ليخلد تلك التجارب التي يمكن أن تساعد على خلق مستقبل مستدام ومزدهر. مع تلاشي الذكريات، نخسر تراثنا التاريخي تدريجيا لكن إلى الأبد. قد تحتاج هذه العملية عقودًا وأجيال، وبالتالي، فإن فرص تصحيح المسار والعودة لا تزال قائمة. ربما انقضى جزء كبير من تلك العقود والأجيال في بعض جهات المغرب، لكن المجال مفتوح أمامنا لتفادي المحتوم. وذلك بتوعية الشباب وتحفيزهم، خاصة في المناطق القروية.
رئيس مؤسسة الأطلس الكبير، رئيس فرع برنامج نشاط الأقليات الدينية والعرقية التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في المغرب
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية