لا يوجد في تاريخ أمتنا العربية والإسلامية قضيةً ناصعةً طاهرةً، نقيةً صافيةً، عقدية قومية، تجتمع عليها الأمة وتتوارث الإيمانَ بها ودعمها الأجيالُ المتعاقبة، وتضحي من أجلها بالغالي والنفيس، وتقدم في سبيلها أقصى ما تستطيع وغاية ما تملك، مثل القضية الفلسطينية والقدس والمسجد الأقصى المبارك، التي تسبق القضايا الوطنية، وتنافس الأولويات المحلية، وتنتصر في كل تحدي وسباقٍ داخلي، وتتصدر الملفات القومية، وتفرض نفسها على كل المحافل الشعبية، والقمم العربية الرسمية، وتكون سبباً في الوحدة والاتفاق، وعاملاً في الفرقة والانقسام، فهي على مر التاريخ توحد الأمة، وتلتقي عليها جهودها، ويتوافق عليها أبناؤها، ومن شذ عنها وتآمر عليها فإنه يقصى ويحارب، ويعاقب ويجازى، وقد يسقط ويهوي، وينهار ويندثر.
لكن سلوك القيادة الفلسطينية، والقوى والفصائل والتنظيمات، والنخب والفعاليات، والاتحادات والنقابات، والتجمعات والسفارات، والهيئات ومراكز السلطة والقرار، فيما يتعلق بعلاقاتهم الداخلية وقضاياهم المشتركة، وتنسيقاتهم البينية، وتعاونهم على كل المستويات الوطنية، وصورتهم العامة وخطابهم الإعلامي، يفقد القضية الفلسطينية رونقها، ويحرمها من نقائها، ويتسبب في تشويهها والإساءة إليها، ويعرض الفلسطينيين عامةً للنقد والإدانة، والغضب والعتاب، ويدفع الموالين للقضية الفلسطينية والمحبين للشعب الفلسطيني إلى التساؤل والحيرة، عن الأسباب التي تجعل الفلسطينيين مختلفين، وتتسبب في صراعهم وانقسامهم، وهم جميعاً يخضعون للاحتلال ويعانون من ممارساته، ويقاسون من سياساته.
لا تنعكس الخلافات الفلسطينية وتناقضاتهم الداخلية، على نفسية الموالين لهم والمؤيدين لقضيتهم، والمؤمنين بها والمضحين في سبيلها، والمتمسكين بها كأهلها وحسب، وإنما تمتد آثارها السلبية إلى قطاعٍ من الأمتين العربية والإسلامية، على المستويين الرسمي والشعبي، الذين رأوا أن الفلسطينيين لا يحترمون قضيتهم، ولا يسعون لخدمة شعبهم، ولا تعنيهم صورتهم، ولا يقلقون على مستقبلهم، ولا يتفقون فيما بينهم إكراماً لشعبهم ووفاءً له، وسعياً لراحته وتقديراً لتضحياته، وَهَمُ قيادتهم الأول بكل مستوياتها واتجاهاتها، المكاسب والمصالح، والمنافع والامتيازات، في الوقت الذي يتضور فيه شعبها جوعاً، ويقاسي ألماً، ويشكو حصاراً، ويكتوي أبناؤه أسراً واعتقالاً، وإصابةً وإعاقةً، وشهادةً وغياباً.
وجد بعض المتخاذلين من العرب، أنظمة حكمٍ ورجال سياسة، ونخباً اجتماعية وثقافية، ورموزاً فكرية وإعلامية، وقاماتٍ رأسمالية واقتصادية، ضالتهم المنشودة في التقارب مع العدو الإسرائيلي، والاعتراف به والتطبيع معه، في الحالة الفلسطينية المزرية، وواقعهم المهين، وصراعهم المخزي، وصورتهم المشوهة، التي يتحمل الفلسطينيون كامل المسؤولية عنها، فهم من صنعها ورسمها، وهم من فرضها وعرضها، وإن كان هذا لا يبرر للآخرين سقوطهم وترديهم، ولا يجيز لهم أفعالهم الأخيرة التي تتناقض مع قيمنا، وتتعارض مع موروثاتنا، ولا تتفق مع ديننا وتقاليدنا، فضلاً عن أنها تعود بالضرر الشديد على أمننا وسلامتنا واستقرار أوطاننا، وتهدد اقتصادنا وتنهب خيرات بلادنا.
يتحمل الفلسطينيون وحدهم ما آلت إليه أوضاع بعض أنظمتنا العربية، وانهياراتها القومية، وتصدع جدرانها التاريخية، وتغير مزاج شعوبها الأصيلة، وانفضاض بعضها من حولنا، وقد كانوا جميعاً أنظمةً وشعوباً معنا، يساندوننا ويؤيدوننا، ويحملون مواقفنا ويدافعون عنا، ويتطوعون معنا ويقاتلون إلى جنبنا.
لكن سوء أداء القيادة الفلسطينية، سلطةً وقوىً وأحزاباً، والصورة المشوهة التي أظهروها، والتضارب الوطني المشين، والتناقض الحزبي البغيض، والتراشق الإعلامي المهين، والسقوط الأمني المخزي، الذي يترجم على الأرض تنسيقاً أمنياً لا معنى له غير العمالة والخيانة، والتبعية والانقياد، يزيد في تشوه الصورة الفلسطينية واتهام قيادتها، ويظهرها عابثةً غير مسؤولة، ومهملة غير جادة، وشخصانية أكثر مما هي وطنية، وهو الأمر الذي جرأ البعض على الحرام، ودفعهم نحو الخبيث، وزين لهم الفحشاء والمنكر، وبرر لمن فرط وتخاذل، واعترف وطبع، رغباتهم الوضيعة وأمانيهم المريضة في التخلي عن القضية الفلسطينية، والنأي بأنفسهم عنها، ومصادقة العدو والاعتراف به، والتعاون معه.
يسوغ هؤلاء لأنفسهم، بجهالةٍ وقلة وعي، وضحالة فكرٍ ونقصٍ في التجربة، بحجة الواقع الفلسطيني السيئ، التوغل أكثر في التطبيع مع العدو في كل المجالات وعلى كل المستويات، دون أدنى إحساس بالحرج أو الخجل، أو بالعيب والخيانة، وحجتهم في ذلك أن أصحاب القضية فرطوا، وهم اعترفوا، ومع العدو نسقوا، وبه اجتمعوا، ومعه عملوا، وله قدموا، وفي مشروعه ساهموا، وفي أجهزته ومؤسساته تطوعوا.
فإلامَ يُعابون ويُعاتبون، ولماذا يُخَونون ويُتَهمون، وهم الذين تأخروا في الاعتراف والتطبيع، ولم يعجلوا به أو يسرعوا إليه، بينما سبق الفلسطينيون واعترفوا، وهم أصحاب القضية والشأن، وأهل المعاناة والكرب، وهم الذين ضربوا للجميع مثلاً، وكانوا لغيرهم أسوةً، إذ قبلوا بالتوقيع والاعتراف، والسلام والاتفاق، قبل أكثر من ثلاثين سنة، وما زالوا على عهدهم، يحافظون على اتفاقياتهم، ويصرون على تطبيعهم، ويمعنون في التعامل مع عدوهم بما يريد وكيف يريد، بل يعاقبون من يخرج على الاتفاق، ويعتقلون من يمس أمن العدو ويهدد مصالحه، وسجونهم على ذلك شاهدة، وسجلات شعبهم ضدهم تفضحهم وتكشف أسرارهم.
قد يكون من حقنا أن نلوم غيرنا، وأن نعتب على سوانا، وأن ننتقد أفعالهم ونغضب من سلوكهم، ونغتاظ من سياساتهم، ونتهمهم بالتخلي عنا والانقلاب علينا، ولكن علينا قبل ذلك كله أن نحاسب أنفسنا، وأن نراجع سياستنا، وأن نصلح ما أفسدنا، ونصحح ما أخطأنا، وأن نعيد رسم قضيتنا وعرض مشكلتنا، وأن ننهج بيننا سياسةً حكيمةً، تنهي الخلافات، وتقضي على الصراعات، وتؤسس للوحدة والاتفاق، والتعاون والتكامل، ونمنح شعبنا العظيم، المضحي المعطاء، الصابر الصادق، فرصةً للعيش الكريم والحياة الآمنة المستقرة، فلعله يشكو أيضاً من سوء الإدارة، وانحراف القيادة، وغياب الثقة، وفقدان الصدق والنزاهة.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – Fاشترك في حسابنا على فيسبوكو تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية