التاريخ المصري حلقات متصلة لا انفصام فيه، وإذا كان تاريخ مصر الحديث والمعاصر يؤرخ له بحقبة محمد على.. فإنه في المقابل يسجل التاريخ للحركة الوطنية المصرية منذ مطلع القرن الماضي. قيادة حركة الكفاح الوطني وإحداث تغييرات جذرية. كان أبرزها إعلان استقلال مصر وترسيخ وهندسة الهوية المصرية.
مع إعلان انتهاء الحرب العالمية الأولى في مثل هذا اليوم عام 1918، لم يفكر طويلًا سعد زغلول وكيل الجمعية التشريعية في طلب لقاء السير ريجالند وينجت المندوب السامي البريطاني لمصر، وبعدها بيومين فقط في 13 نوفمبر 1918، تم اللقاء الذي شهد عنفاً لفظياً عندما قلل المندوب السامي من الشعب المصري وقدرته على حكم نفسه، ورفض اعتبار سعد زغلول ورفيقيه عبدالعزيز فهمي وعلي شعراوي ممثلين للشعب المصري، وادعى أن الجمعية التشريعية «البرلمان» مجمدة بسبب ظروف الحرب، ولم يهدر سعد زغلول الفرصة لإشراك الشعب المصري في المعادلة السياسية، وطلب من المصريين توكيله للحديث باسم الشعب في المحافل الدولية، لإنهاء الحماية البريطانية على مصر.
وفي خلال أسبوعين فجر المصريون المفاجأة. وجمعوا أكثر من ثلاثة ملايين توكيل كانت تمثل غالبية الشعب المصري في هذا الوقت. وهنا تبرز عبقرية سعد زغلول في الاستعانة بقوة الجماهير واشتراك الشعب المصري في قضيته. خاصة أن المصريين في هذا الوقت قد عانوا من حرب لم يكونوا طرفاً فيها، ودفعوا ضريبتها سواء باستشهاد أبنائهم أو مصادرة محاصيلهم ودوابهم لصالح المجهود الحربي لبريطانيا، كما تحملت الخزانة المصرية ثلاثة ملايين ونصف المليون دعمًا لبريطانيا العظمى في هذه الحرب، كما أن فرض الأحكام العرفية وما تبعها من رقابة على الصحف وتقييد الحريات والاعتداءات على المصريين ساهمت في التفاف المصريين حول زعيم الأمة وقادة الحركة الوطنية حتى تفجرت الثورة المصرية الكبرى عام 19 وحصلت مصر على استقلالها عام 1922 . وأصبحت مملكة دستورية، ويتم تحديد يوم 13 نوفمبر عيدًا وطنيًا للمملكة المصرية. يتم الاحتفال به منذ عام 1922 وحتى عام 1952.
مؤكد أن تاريخ الحركة الوطنية المصرية إحدى الصفحات الناصعة في بطولات هذه الأمة.. ومؤكد أن ثورة 19 باعتبارها إحدى أهم الثورات الشعبية في التاريخ الإنساني قد أسست لمبادئ جديدة ليس في المجتمع المصري وحده، وإنما في منطقة الشرق كله، ولكن الأهم أن المبادئ والقيم التي أسست لها الحركة الوطنية المصرية راسخة وقادرة على حماية هذا الوطن مهما مر الزمن.
فلم تكن مبادئ وشعارات ثورة 19 – الدين لله والوطن للجميع وعاش الهلال مع الصليب – إلا إعلاناً لدولة المواطنة. ولم يكن تحرير المرأة المصرية وحصولها على الحقوق السياسية والاجتماعية وإنشاء 16 جمعية نسائية في القاهرة والمحافظات إلا استدعاء لنصف المجتمع وإعلاناً بمدنية الدولة، ولم يكن نداء سعد زغلول لأثرياء مصر بسحب أموالهم من البنوك الإنجليزية وشراء صكوك بنك مصر ومساندة مشروع طلعت باشا حرب إلا إيماناً بقيمة الاقتصاد في تحرر القرار الوطني، ولم يكن دستور 23 الذي أسس للتعددية السياسية والحزبية وصون الحريات العامة وحرية الصحافة ومجانية التعليم وحقوق العمال وغيرها من المبادئ إلا إعلاناً عن قيام الدولة الوطنية المدنية وهندسة وترسيخ الهوية المصرية التي فجرت الإبداعات في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية والاجتماعية.. تلك الهوية التي تحطمت على صخرتها كل المؤامرات، وليس أدل على ذلك من ثورة الثلاثين من يونيو التي خرج فيها المصريون على قلب رجل واحد يعلنون سقوط الحكم الفاشي الديني ويؤكدون تمسكهم بهويتهم وحماية وطنهم.
حمى الله مصر
نائب رئيس الوفد
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا