لم يمر على أمة العرب زمن أسوأ من هذا الذي نعيش فيه، فرغم أن القرون السالفة شهدت قيام دول على الأرض العربية غير عربية وبعضها غير إسلامية، لكن قوة التأثير العربي كانت تفعل فعلها في احتواء تلك القوى العاتية، فكانت إما أن تذهب من حيث أتت كما حدث للفرنجة، أو أن تبقى وتنصهر في البوتقة العربية.
أما اليوم، فإن العالم اختلف كثيراً، فقد تركزت القوة في أماكن بعيدة وأصبح العرب منجذبين إلى مراكز القرار الخارجية سواء أكانت في الغرب أو الشرق. وعلى مدى النصف الثاني من القرن الماضي، كان الصراع العالمي بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة، وما إن انتهى هذا الصراع حتى عاد من جديد، بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة ودول الغرب من جهة أخرى. وقد انعكس ذلك على الدول العربية التي دخل العديد منها في نفق الصراعات والأزمات الداخلية.
إن انفتاح الصراع الدولي والإقليمي والمذهبي على الأرض العربية سيؤدي إلى المزيد من الشرذمة والتفرقة بين العرب، وأيضاً إلى خروج القرار من أيدي العرب بشكل نهائي. فقد نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» يوم 29-09-2015 دراسة أعدت لوزارة الدفاع الأمريكية عن إمكانية إعادة رسم الخريطة السياسية في الدول العربية، وتقسيم الدول العربية على أساس طائفي بصورة تقضي إلى تفتيتها إلى عدة دويلات، في أعقاب ما عرفته من انقسامات عرقية ومذهبية، وبعد أن فشل تنظيم «القاعدة» في تأجيج الحرب الطائفية وتوسيع مداها، وأبانوا عن سطحيتهم وتهافت خطاباتهم السياسية العمياء التي تنم عن جهل مطبق، فلا هي تصدر عن إيمان حقيقي، ولا عن عقيدة توحيدية خالصة تفقه حقيقة الألوهية، ومكنون الربوبية، إنما الإفلاس في التوجهات وفي طبيعة المعطيات والحقائق. لذلك ظهر البديل سريعاً تنظيم «داعش» بالدعم الإقليمي والدولي لينفذ مخطط التقسيم على أساس طائفي، ويشعل فتنة الحروب الطائفية. إن من المهام المنوطة بتنظيم «داعش» إقامة دولة طائفية مذهبية في العراق- مستغلاً لعب أطراف عراقية وإقليمية على المسألة المذهبية- وإقامة دولة طائفية مذهبية أخرى في سوريا، وتفتيت الدول العربية الأخرى من خلال إحياء الأصولية الدينية.
وفي تصريح لوزير الدفاع الأمريكي الأسبق ليون بانيتا كشف عن أبعاد الاستراتيجية الأمريكية بقوله: «إن القتال ضد تنظيم «داعش» الإرهابي سيكون صعباً، وقد يستغرق عقوداً». ملقياً اللوم في ذلك على قرارات الرئيس الأمريكي باراك أوباما. وقال بانيتا: «أعتقد أن الحرب ستستمر نحو ثلاثين عاماً، وقد يمتد تهديد التنظيم إلى ليبيا ونيجيريا والصومال واليمن».
ويستنتج من هذه التصريحات أن الهدف الأمريكي لم يكن بقصد القضاء على «القاعدة» أو تنظيم «داعش» أو الإرهاب 11 سبتمبر، بل عولمته حتى يشمل المنطقة العربية وشمال إفريقيا. وما تشهده مصر، تونس، الجزائر، مالي، نيجيريا والصومال من أعمال عنف وعمليات إرهابية دليل على تمدد التنظيمات الإرهابية، وتنفيذ المخططات الغربية والصهيونية، وهو استنزاف موارد الدول العربية ومقدرات شعوبها، وأيضاً العمل على تأجيج العبثية الكلية للعنف لوصف ظاهرة الثورة العربية (الربيع العربي)، وتكون حال الوطن العربي الطامح إلى امتلاك مقدراته، والساعي نحو نشأة جديدة، لا يجد مسعى آخر إلا عبر ممارسة العنف السياسي، بحيث يصبح العنف شرطاً ملازماً لكل مسار ثوري، وحين تستوجب الثورات العنف يتشاكل كل من العنف الثوري والعنف الإرهابي، بحيث يلعب الموت دوراً محورياً على طاولة الإرهاب العنيف. وكما يقول هوبز فيلسوف السياسة: «العامل الرئيسي لديه هو: المساواة في الخوف الناتج عن قدرة متساوية بين البشر على القتل ودلالة العنف في علاقته بالكيان السياسي من جهة، وفي علاقته بالهوية من جهة ثانية». أي: أن العنف والرغبة العدوانية تقوم في جوهرها على الشر وغريزة القتل والخوف الدائم من الموت.
في هذا السياق يتبين لنا أن هذه الدراسات والتصريحات تطرح في عمقها، من خلال مراجعة وثائق تاريخية وأحداث حقيقية، العبث في سياسة الغرب، وكيف يصبح التلفيق والازدواجية أسلوباً مجتمعياً ممنهجاً في الدول الغربية، لأن هذه الدراسات تنسج خيوط المعنى بهدوء وصبر وأناة. وفي كتاب صدر للمؤلف الإرلندي باتريك كوكبيرن بعنوان «داعش والانتفاضة» والذي يعد من الكتاب المتفردين كفاءة وشغفاً بالحقيقة، يؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكة قد فشلت في قيادتها الحرب على الإرهاب، ويشكك في جدية التحالفات الغربية مع بعض دول المنطقة، بل يؤكد أن وكالات الاستخبارات الغربية متورطة تورطاً كبيراً في صناعة «داعش»، وعلى كافة المستويات. ويعلق على ذلك بأنه يعني أن واشنطن كانت تقوم بكفاءة بتوريد أسلحة متقدمة، ولذلك كان الفشل في القضاء على الإرهاب مقصوداً، أو مخططاً له من قبل الدول الغربية.
ويشير الكاتب إلى الحقائق التي تؤيد ما ذهب إليه من وثائق سرية لوزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين رفع عنها الحظر بموجب دعوى قضائية، فقد صرح مايكل فلين مدير المخابرات الدفاعية السابق في الولايات المتحدة الأمريكية على الدور الخفي لأمريكا في تأسيس «داعش». وأن الذي حصل ويحصل في العراق وسوريا وليبيا واليمن مؤامرة مدبرة في عدة دوائر عالمية. كل أصابع التاريخ تشير بالاتهام إلى الغرب بعد الحرب على العراق، والآن حل الدور على تدمير الأوطان العربية، مع الأسف بأيدي أعدائها تفكيراً وتخطيطاً وتمويلاً، ولكن العبء الأكبر، والمسؤولية العظمى، تقع على عاتق أبناء الأمة الذين يتناحرون تحت مبررات طائفية ومذهبية، وهم في الواقع باعوا واشتروا وتواطؤوا على بلدانهم من أمثال الحوثيين الذين يعانون سذاجة مهلكة، وضعفاً في البصيرة، وخمولاً في العقل، وبلادة في الذهن تستمرئ التواريخ المزيفة، وتعجز عن رؤية ما تحت أقدامها. –
30 3 minutes read