يحتفل المسلمون في كل مكانٍ، في هذه الأيام المباركات، من شهر ربيع الأول من كل عام، بذكرى مولد رسول الله الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، فيحيون الموالد، ويعقدون الندوات، وينظمون مجالس الصلاة عليه، ودواوين المديح له، وحلقات الذكر النورانية، وتواشيح الحمد المحمدية، ويوزعون الحلوى والسكاكر، ويفدون إلى المساجد بفرحٍ، ويلجون إلى البيوت بسعادةٍ، وقد رفلت بالهدايا، وازدانت بالألوان والزينة والأعلام، في يومٍ عده المسلمون يوم عطلةٍ رسميةٍ، له يتهيأون وفيه يفرحون، ويتبادلون التهاني والمباركات، بمولد حبيب الرحمن، وسيد الأنام، رسول الله محمد بن عبد الله.
نحتفل بذكرى مولد رسول الله، الذي بعث للعالمين جميعاً، بالهدى ودين الحق، وأرسل برسالة السماء، الحنيفية السمحاء، لينشر السلام، ويعمم الرحمة، وينشد المحبة، ويخلق المودة، ويشجع على الإخاء والوئام، والعدالة والمساواة، ويحرم الظلم والبغي والعدوان، وينبذ العنف والإرهاب، ويحارب الفساد والطغيان، ويرفض الرذيلة ويدعو إلى الفضيلة، ويدعو إلى التعايش السلمي والأمان المجتمعي، وإلى احترام المواطنين وحفظ حقوق الجيران والمسالمين، ويؤكد على حقوق الإنسان والحفاظ على كرامتهم، فلا تمييز بينهم، ولا عنصرية تفرقهم، ولا أفضلية للون والجنس والدين واللسان، اللهم إلا بالخلق القويم والسلوك الحسن والتقوى الصادقة.
نحتفل بذكرى مولد الرسول العربي القرشي محمد بن عبدالله، الذي نهض بالعرب، وأعلى مقامهم، ورفع شأنهم، وسما بنجمهم، وجعلهم في مقدمة الأمم، سادةً كباراً، وأئمةً مصلحين، وقادةً فاتحين، ورسلاً مبشرين، وأساتذةً معلمين، ورواداً سباقين، ورموزاً لامعين، وقد أراد لأمته العربية، التي ارتفع شأنها بالإسلام، وأصبحت به حاملة رسالة ومسؤولة عن أمانةٍ، أن تكون الأمة الوسط، قوةً وعدلاً، وقدرةً وصلاحاً، وعملاً ونجاحاً، وانجازاً وفلاحاً، وأن تكون بين العالمين شامة تزينهم، وساريةً ترفعهم، ومنارةً بها يهتدون، ومثالاً بها يحتذون، ونموذجاً منها يتعلمون، وموئلاً إليها يلجأون، وداراً بها يأمنون.
لكننا نحتفل بذكرى مولده الشريف منذ عقودٍ طويلةٍ وحالنا لا يرضيه، وأوضاعنا لا تسره، وظروفنا تؤلمه، ومكانتنا تزعجه، ومستقبلنا يقلقه، وهو يرى أوطاننا محتلة، وبلادنا مستباحة، وخيراتنا منهوبة، وإرادتنا مسلوبة، وقراراتنا مرهونة، وأجيالنا ضائعة، وأبناؤنا فسدة، وحكامنا ظلمة، وقاداتنا مارقين لا يمثلوننا، وعابثين لا يهتمون بشأننا، وخائنين لا يعنيهم أمرنا، وشعوبنا هائمة على وجوهها، حائرة في مصيرها، وسادرة في طريقها، وقد ضلت السبيل، وحادت عن طريق الرشاد، وانحرفت عن غايتها، ففقدت البوصلة، وأضاعت الهدف، وأهملت الواجب، وقصرت في الفرض، وانشغلت بحاجاتها عن دورها، وغرقت في همومها الذاتية ونسيت هموم الوطن والأمة.
نحتفل بذكرى مولد رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد اجتاحت الأمةَ الإسلاميةَ أفكارٌ فاسدة، ومفاهيم باطلة، وتياراتٌ متشددة متطرفة، وأخرى تكفيرية ظلامية، أضرت بالأمة، وشوهت الدين، ومزقت البلاد، وشتت الشعوب، وهجرت أصحاب الأرض، ونهبت الخيرات، وخربت الأوطان، وأعادتنا إلى الوراء سنين طويلة، وسمحت هذه الفرق الضالة المنحرفة، للمتآمرين علينا والكارهين لنا، بالعبث في ديننا والتآمر عليه، وارتضت بجهلها وغبائها، أو دورها ووظيفتها، أن تكون أداةً في أيديهم، ومطيةً تحت تصرفهم، يعيثون بهم فساداً في ديننا، ويحرفون بهم آيات كتابنا، ويعطلون سنة نبينا، ويجدفون في إسلامنا بما ليس فيه، ويكفرون أبناء دينهم، ويقتلون أتباع ملتهم، ويفسدون بيننا وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً لنا.
ولأكثر من سبعين سنة، نحتفل بذكرى مولد حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومسراه محتل. ومعراجه مغتصب، وقبلته الأولى عن أمته محجوبة. ومنهم منزوعة، وعن بلادهم مسلوخة، وأهلها يهانون ويضامون، ويظلمون ويقتلون، ويعتقلون ويطردون، وتنهب أموالهم وتسرق حقوقهم، وتصادر أرضهم وتحرق محاصيلهم، وشعبها الكريم محرومٌ من العيش في وطنه. ومن بناء دولته، وفرض سيادته ورفع علمه. وهو صاحب الحق ومالك الأرض. ولكن الأمم مع الحركة الصهيونية تكالبت عليهم، واجتمعت ضدهم، وأيدت عدوهم، وشرعت وجوده، وجَوَّزت سرقاته، وأجازت اعتداءاته.
نحتفل بذكرى مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته التي أرادها واحدةً ذات رسالةٍ خالدةٍ، وجمعها على الإسلام، ووحد بينها وآخى بين قبائلها، وبشر أبناءها بالسلم والأمان، قد انقسمت وتفرقت، وتشظت وتشرذمت، وارتفعت بينها الحدود والسدود، واندلعت بينهم الحروب والمعارك، وغدت شعوبها غريبة، وعلاقاتها محدودة، والمودة بينها معدومة، وأواصر محبتها مقطوعة، وحل محلها الحقد والكره، والضغينة والتآمر، ولم يعد يوحدها الدين، أو تجمعها اللغة، أو تحصنها القيم الموروثة والحضارة الأصيلة.
تحتفل أمتنا هذه الأيام بمولد رسولها الأكرم وهي حزينة باكيةٌ، موجوعةٌ مفطورةٌ. وقد انقلبت أحوالها، وتبدلت ظروفها، وتخلت عن قيمها، وتنازلت عن ثوابتها. وفرطت في أماناتها، فقد بدل أبناؤه، وغَيَّرَ أتباعه. ولم يعودوا يوالون أولياءه، ويعادون أعداءه. بعد أن ماتت فيهم النخوة القديمة، واندثرت لديهم الكرامة الأصيلة. وغابت عنهم قيم النبل والشهامة، والنصرة والإجارة، ومفاهيم الإسلام العظيمة. إذ اعترفوا بالعدو وطبعوا معه، واتفقوا وإياه، وتبادلوا المنافع معه، وارتضوه شريكاً وهو القاتل. وقبلوا به جاراً وهو الغاصب. واحتفوا به وهو المحتل لأرضهم، والمدنس لمقدساتهم، والمذل لشعبهم، والطامع في خيراتهم. والمتآمر على بلادهم، والساعي لخراب أوطانهم، وفساد أبنائهم وضلال شعوبهم.
بأبي وأمي أنت يا رسول الله، أراك غير راضٍ عما حل بأمتك، وأشعر بك حزيناً لما أصابها وحل وبها، ومتألماً لأحوالها وباكياً على مصيرها. ولكنك وأنت الصادق الموحى إليه، الذي لا ينطق عن الهوى. قد بشرت أمتك بالنصر، ووعدتها بالظفر، وأنها لا تجتمع على ضلالةٍ، ولا تقيم على الذل. ولا تستقيم على الضيم، وسيأتي من ينهض بأمرها. ويأخذ بيدها، ويرفع شأنها، وينتشلها من الحمأة التي سقطت فيها، والوبيئة التي رتعت فيها. فإنَّا يا رسول الله على عهدك ماضون. وبسنتك متمسكون، وعلى نهجك محافظون، ولوعدك منتظرون، ولبشارتك صابرون. وإلى حوضك والكوثر نتطلع، وإلى شربةٍ ماءٍ لا نظمأ بعدها أبداً، من يديك الشريفتين ندعو الله عز وجل ونأمل.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – Fاشترك في حسابنا على فيسبوكو تويترلمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية