أم هنية سيدة تسكن في باب العامود على مقربة من المسجد الأقصى وعلى بعد خطوات من مسجد الصخرة.. وفي صباح يوم من أيام العطلة الصيفية اتفقنا أنا وابن عمي عطية رحمه الله وابن أخي حسن طيب الله ثراه وكان كلاهما يكبرني بثلاث سنوات ولكن كانت قلوبنا وعقولنا متقاربة ولا أبالغ إذا قلت أننا أيضا كنا الأقرب في الطول وإن اختلفت الأحجام قليلا. فكان فارق السن يعوضه ما حباني الله من طول فارع.
اتفق ثلاثتنا أن نشد الرحال إلى القدس في زمن الاحتلال الإسرائيلي وكانت والدتي وأخي الكبير من والدي وحرمه قد زاروا القدس سويا بعد أن أكرمهم الله بالحج عبر الأردن بتنظيم من شركة الحلبي للسياحة والسفر حيث كانت تنقل الحجاج من سيناء وغزة والضفة الغربية إلى الأردن عبر جسر الملك حسين ومنها إلى السعودية وقد زاروا القدس ومكثوا فيها ثلاثة أيام وبالطبع لم ينزلوا في فندق الملك داود.
ولكن دلهم أولاد الحلال على هذا الفندق الشعبي وهو عبارة عن غرفة واحدة بحمام. تملكها هذه السيدة التي فقدت زوجها في حرب 1967 وتقوم بتأجير هذه الغرفة لزوار الحرم القدسي. ومن المؤكد أنها تقتات من هذا الدخل البسيط وقبل أن نغادر إلى وجهتنا. أوصتني والدتي أن نبحث عن المكان الذي وصفته لي. ولأنني قد زرت القدس من قبل في رحلة مدرسية وأنا في الصف الثالث الإعدادي. مع الأستاذ سعيد المطري قد استوعبت الوصف إلى حد كبير لأنها لم تعطي لي عنوان ولا نمرة ولا اسم شارع. ولكن فقط منزل أم هنية.
وكنت مستغربا من هذه التسمية فعادتنا أن نسمي الأم أو الأب على اسم الابن الذكر ولكن اتضح أن هذه السيدة لم تنجب أبناء ذكور.
وصلنا إلى موقف القدس وكان السفر سهلا ويكفي أنك تحمل بطاقة أو هوية كما كانوا يسمونها لتتنقل بين كافة المدن الفلسطينية.. ومن موقف باب العمود ترجلنا مشيا على الأقدام بين الطرقات التي تشتم فيها موسيقى الرحبانية وصوت فيروز «مريت في الشوارع شوارع القدس العتيقة» وكل منا يحمل شنطته الصغيرة نبحث عن أم هنية حسب وصف الحاجة وهيبة «ياسمين».
ولم تشأ الأقدار أن تجعل يومنا يضيع هدرا ونحن لم نزل في أولى درجات الشباب. فحسن قد أنهى دراسته الثانوية وينتظر السفر إلى القاهرة ليدخل الجامعة. ومضى عليه عام في الانتظار وكان هذا هو النظام وهو أن تنتظر عام بعد التنسيق. حتى تتم الموافقات بين الجانب الإسرائيلي والصليب الأحمر الدولي والسلطات المصرية.. وعطية لتوه أنهى دراسته الثانوية وينتظر طابور التنسيق ثم السفر وأنا أنهيت الصف الأول الثانوي.
وقد اختصر القدر الزمن فعثرنا على ضالتنا في زمن قياسي لنسلم على أم هنية ونهديها السلام من الأهل ونطلب منها تدبير السكن فترحب وتدخلنا إلى الغرفة التي هي بالكاد تتسع لثلاثتنا وكأنها تحت قبو من أقبية العصر العثماني لنضع أمتعتنا ونذهب لتناول إفطارا شهيا في أحد المطاعم الفلسطينية والذي أشارت لنا به تلك السيدة التي يكاد أن تنطق قسمات وجهها التي أكل عليها الزمان وشرب بكل ألوان القسوة التي خلفتها سنوات الحرب والاحتلال.
ثم ذهبنا إلى صلاة الظهر في مسجد قبة الصخرة.. نعم صلاة الظهر فلا تستغرب فقد أقلعنا بالسيارة المرسيدس وهي سبعة راكب. كما كان الاسم دارجا في حينه من «مطار» العريش الرابعة فجرا لنصل إلى وجهتنا في حوالي التاسعة صباحا. وربما أقل وبين موقف باب العامود و«فندق» أم هنية ذات الغرفة الواحدة دقائق مشيا على الأقدام.
وبعد صلاة الظهر ساقتنا أقدارنا إلى طريق ليس ببعيد وهو حائط المبكى. الذي يبعد عن المسجد الأقصى قرابة الخمسمائة متر أو يزيد لنتأمل. كيف كان يصلي اليهود وأن الحائط عليه آثار السواد في المنطقة التي توازي بكاء الرجال أو النساء. أما ما فوقها أبيض وماتحتها أيضا أي أنهم يبكون ويمسحون دموعهم في الحائط فعلا.
ثم دلفنا إلى الجزء المحروق من المسجد الأقصى أول القبلتين وثالث الحرمين والذي أحرقه المتطرفون اليهود عام 1969. وصلينا العصر في الأقصى الشريف ثم ذهبنا إلى المدينة القديمة أو القدس الشرقية. كما كان متعارف عليه لنمر بالشوارع العتيقة المرصوفة بالحجارة بين البيوت القديمة والتي ينبت الزرع بين جدرانها من كثرة المطر. ولم لا وهي البلاد الخصبة التي باركها الله وما حولها فما من شبر طول الطريق إلا كان أخضر.. حتى اليابس يكسوه اللون الأخضر بشكل أو بأخر فينبت من بين التصاق الحجر بالآخر نبتة خضراء فسبحان الخالق العظيم.
ونقضي ليلتنا بين صلاة تحت قبة الصخرة والتي ترتفع قرابة المترين عن سطح الأرض وننزل إليها بسلالم والتي قيل إنها ارتفعت مع سيدنا محمد عندما طار به البراق واستقرت هكذا وحيث يوجد أحد الأعمدة والذي يوجد بداخله تجويف يقال إنه موضع قدم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وفي قول أخر إنه موضع قدم البراق النبوي لنضع يدنا فيه فيخرج برائحة المسك.. وصلوات في الأقصى حيث صلى رسولنا الكريم إماما بالرسل في ليلة الإسراء والمعراج الذي هو على بعد خطوات من مسجد قبة الصخرة وهو الذي يظهر دائما في صور القدس الشريف زهرة المدائن.
وكانت ليلتنا هذه ليلة الجمعة لنبيت في غرفتنا المتواضعة عند صاحبة «الفندق» التي كانت تنتظرنا لتطمئن أننا عدنا بعد العشاء على وعد بأن توقظنا لصلاة الفجر -وقد كان- وكيف لا نصحو والآذان يصدح في الأقصى ومسجد الصخرة ونحن في باب العامود نكاد نكون بينهما .
وما أجمل ساعات الفجر في أروقة البلدة القديمة حيث أنهينا صلاتنا وامتطينا أحصنة أقدامنا لنتجول في الساعات الأولى. حيث تفتح المحال مبكرا فهذا يوم مختلف فالجمعة جامعة. ويأتي المصلين من كل حدب وصوب وبرغم الانتشار المكثف لدوريات عسكر اليهود إلا أن كل شئ كان يسير هادئا.
ومبكرا نذهب إلى الأقصى بعد إفطار مقدسي لا يمكن أن تنساه لا شكلا ولا طعما ولا بركة.. لنحجز موضعا في الأقصى حيث يمتلئ قرب العاشرة صباحا ويجلس المصلين في الساحة ما بين مسجد الصخرة ومدرجه والأقصى وأبوابه.. وكانت الجمعة كأنها عيدا فهذا المشهد لم أراه إلا في الحرم النبوي أو المكي فيما بعد.
وتنتهي الرحلة ونعود من حيث أتينا ولم تغب عن العقل أم هنية تلك المرأة الستينية التي يبدوا أنها لم تنجب إلا هنية وعاشت لها.. ولم تمحو الأيام ذكرى ابن أخي حسن أطيب قلب يمكن أن تراه في حياتك ولا تستغرب أنه ابن أخي وكان يكبرني فهناك من هو أكبر منه بكثير فأخي الأكبر من أبي كان كثير من الناس يظنون أنه أبي.. لأنه كان يلبس نفس اللبس ويجلس في نفس الدكان الذي ورثه عن أبيه.. وابن العم عطية ذو الضحكة الصافية والذي لم اسمع أو أرى يوما أنه كان يحمل مثقال ذرة كره لأحد عليهم سحائب الرحمة ومن قلبي للقدس سلام.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا