كانت مخاوف تأثير الانفلات للأمن السيبراني منذ نشأة الإنترنت متركزة على المحتوى المتطرف والإرهاب، ومسائل تبييض الأموال من استخدام «الحرس الثوري الإيراني» لمواقع المقامرة الرقمية مثل «ريفر بوكر» لتبييض الأموال، وتبادل العملات الرقمية «بيتكوين»، إضافة إلى معسكرات التجنيد الرقمية للتنظيمات من «القاعدة» إلى «داعش»، وصولاً إلى الحضور النشط لـ«حزب الله» والميليشيات الشيعية والحوثي على مواقع التواصل الاجتماعي، ومحاولة بث محتوى تضليلي.
لكن الأزمة اليوم تتجاوز المحتوى إلى مفهوم استقلال الشركات الرقمية وبحثها عن الربحية السريعة، والتملص من التبعات القانونية والأخلاقية، مما يشكل عبئاً إضافياً على أمن الدول والأفراد.
سلطة «السيليكون فالي» (Silicon Valley) كانت منذ عقود محل صيحات نذير أطلقها باحثون وخبراء، إضافة إلى مراكز أبحاث، في مخاوف من أن عدم تعديل الدساتير الغربية في مقاربة مسألة شركات التقنية بحجة حرية الإنترنت للجميع، والصورة الوردية الإيجابية للثورة الرقمية، حال دون أخذ المسألة بشكل جاد.
أزمة «فيسبوك» الأخيرة فتحت النقاش مجدداً على الضرر الكبير على البشرية من هذا الانفلات الرقمي الذي يعود إلى سبب مفاهيمي، وليس مجرد أخطاء تقنية أو مواقف منحازة ضد رئيس دولة أو كيان مؤسسي. اليوم الخطر الرقمي بنيوي نابع من هيكلية هذه الشركات الكبرى، وطريقة فهمها للخدمات، وتغليب جانب الربحية الشرسة على حساب القيود الأخلاقية والقانونية، بل وفي مراحل متقدمة من دون حتى تدخل حقيقي للإرادة البشرية من خلال الاعتماد على الذكاء الصناعي والخوارزميات التي تلاحق المستخدمين بكم هائل من المحتوى المخصص لهم بلا معايير دقيقة لمجرد زيادة إعلانات الشركة، وهذا يطال المحتوى من الأخبار إلى الميديا التي يرفعها المستخدمون بدون أي رقابة مباشرة، وبضوابط فضفاضة غير محدثة يتم الضغط بها على هذه الشركات، خصوصاً من اللجنة الفيدرالية ذات الاختصاص في الولايات المتحدة، بعض المنظمات أو الدول الذي ترفع تقاريرها بشأن محتوى ضار، وبالطبع بشكل أقل من خلال بلاغات الأفراد التي يطالها الكثير من التحيز والأسباب الشخصية.
الأزمة اليوم أكبر من سابقتها المتصلة بالبند 230 من قانون آداب السلوك للاتصالات الرقمية… هو يطال هذه الشركات التي حولت عالماً افتراضياً بأكمله إلى مجرد مستهلك يبتلع ما تطرحه هذه المنصات. من محتوى غير مدقق مرهون بمجرد رغبة المستخدم والضغط على أوامر الإعجاب أو عدمه.
وفي هذا السياق تؤكد كل مخرجات مراكز الأبحاث والتقارير التحليلية على تضخم شركات التقنية. التي تساهم في تغطية الإعلام الرقمي بمنتجاتها كافة. من خطابات التطرف إلى الكراهية والعنصرية والشعبوية إلى تهديد أمن الدول واستقرارها من خلال أكثر الشرائح هشاشة. على مستوى الوعي 70 في المائة منهم من المراهقين، وبعدد يتجاوز الثلاثة مليارات من سكان الأرض!
وإذا كان هذا يطال النصوص المباشرة والمحرضة، فالحديث عن الانتهاكات الأخلاقية واقتحام الخصوصيات والمحتوى الضار، ومنه على سبيل المثال مما تم رصده الميديا المحرضة على العنف أو الانتحار، علاوة على الجرائم المنظمة وتجارة المخدرات وصولاً إلى الاتجار بالبشر، وربما كان من أكثر الموجات ضرراً فيما يخص اللحظة الراهنة ومحاولة العالم التعافي من «كورونا» مسألة نظريات المؤامرة والهجوم على اللقاحات عبر نشر أخبار زائفة واختلاق قصص مفبركة تنتشر أكثر من الحقائق، بسبب اعتمادها على أداة «الفاكهة المحرمة» (forbidden fruit)، أو كما يشاع بالعربية «الممنوع المرغوب».
التأثير السياسي والاقتصادي لـ«السيليكون فالي»، وتحول شركاته ومنتجاتها إلى سلطة كونية عابرة للقارات والحدود لا ينازع في ذلك إلا بعض المحاولات الطموحة من الصين وبعض الدول الأخرى المستثمرة في سلاح البيانات، ومنها «التيك توك» (TikTok) الذي زاد من شراهة الشركات الكبرى بسبب منافسته على كعكة الجمهور، واتضح ذلك مع الأزمات السياسية الذي ازدادت فيها شعبية التطبيق الصيني، بسبب عدم تحيزه السياسي، وتفوق الخوارزميات فيه على غيره.
التهديدات الرقمية اليوم وسلطة الشركات الكبرى الملف الأضخم. الذي يحتاج إلى معالجة حقيقة وسريعة وتضامنية تتشارك فيها الدول الكبرى. وتأثيره يتجاوز ما عرفنا من ثورات وتحولات في الواقع الفعلي بسبب سهولة التجنيد والتحشيد وصناعة المحتوى المضلل وإدارته. لذلك هو الآن السلاح النوعي المفضل للمجموعات المارقة والتنظيمات المتطرفة للانقضاض على منطق الدولة، واستقرارها. ومن دون تكافؤ في الفرص، حيث انتشار الوعي والخطاب العاقل أقل نمواً وأكثر تكلفة من نقائضه التي تشعل «الخوارزميات» اللاهثة. وراء الربح والأرقام والإعلانات إلى تحويلها إلى نيران متقدة وحرائق كونية.
ومن دون إعادة طرح أسئلة تأسيسية جادة على من يملك البيانات، ومن يملك حق تمريرها برمجياً. ومن يستطيع التسويق السياسي الرقمي، والتحكم في تدفق المعلومات ووصولها. سنكون كمن يتحدث عن شبح إضافي لغول رقمي يقف بجانب أشباح أخرى كالإرهاب والعنصرية تطارد العالم. وتطرح عليها تحديات مختلفة من دون أن تجابه بأسئلة النقد الجادة.
كاتب سعودي
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا