ستبقى حرب أكتوبر المجيدة، ملحمة عظيمة في تاريخ مصر والأمة العربية، وسيظل هذا الانتصار رمزًا خالدًا تفتخر به الأجيال وتتباهى به جيلاً بعد جيل باعتبارها تجسيدًا عمليًا لكفاءة وعبقرية المصريين، وستبقى دليلاً دامغًا على أن إرادة أبناء هذه الأمة أكبر وأقوى من كل التحديات والمخاطر.
في مثل هذه الأيام منذ ثمانية وأربعين عامًا عشت تفاصيل حرب أكتوبر الخالدة ساعة بساعة، وباتت أحداثها محفورة في ذاكرتي، بالرغم من أنني لم أتجاوز حينها العاشرة من عمري. ولكن لوجود شقيقّى أحدهما ضابط احتياط والآخر عامل في ساحة المعركة، كنت مع والدىّ رحمهما الله لا شاغل لنا إلا متابعة أحداث الحرب من خلال التليفزيون والإذاعة والصحف أو من بعض العائدين من الجبهة، تلك الأيام التي عشناها مع التكبيرات في المساجد والشوارع ليل نهار ومع كل بيان كانت تصدره القوات المسلحة وإعلان تحقيق الانتصار في المواقع، وتكبيد العدو خسائر فادحة، وتقهقره خلف خط بارليف الذي حطمه المصريون بسواعدهم وإرادتهم وعقيدتهم، وليس بقنبلة ذرية كما كانوا يعتقدون.
ورأيت الجميع يتبارى في تقديم دمائهم وشتى أشكال الدعم للقوات المسلحة الباسلة، وكنا رغم صغر سننا نبحث عن عمل ودور نؤديه بخلاف الهتاف والتكبير وحمل المصابيح في جنازة الشهداء، ولم يكن يعلو صوت في أي منزل على صوت المعركة، ومع عودة الأبطال محمولين على الأعناق عشنا نشوة الانتصار والزهو بمصريتنا، وجلسنا حولهم نستمع إلى بطولاتهم الخارقة وأساطير الانتصار العظيم مع شدو المطربين لأغاني النصر والعبور.
إن عبقرية المقاتل المصري كانت كلمة السر في هذه الملحمة العظيمة وفي هذا الانتصار الذي أذهل الجميع، وجعل العالم يعيد حساباته العسكرية، على اعتبار أن كل الدراسات والنظريات العسكرية كانت تؤكد أن بناء خط بارليف بهذا الارتفاع، وبنقاطه الحربية الحصينة فوق المانع المائي لقناة السويس، وامتلاك إسرائيل لأحدث الأسلحة، كلها عوامل تجعل اجتياز مصر لكل هذه الموانع مهمة مستحيلة. وفى حاجة إلى قنبلة نووية لتحطيم هذه الموانع والوصول لأرض سيناء.
ولم يدرك العدو ومن يدعمه أن هذا الشعب يمتلك جينات وروح البطولة والفداء على مر التاريخ. وما سطره أبناؤه في عمليات الاستنزاف كانت تشكل اعجازًا. ومع أن الذاكرة المصرية مليئة بالبطولات إلا أن مجموعة واحدة مثل الفرقة 39 قتال. التي قادها الشهيد البطل إبراهيم الرفاعي قد أصابت العدو بالذعر والهلع. عندما قامت عقب استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض بعشرات العمليات خلف خطوط العدو وبدأتها بالتسلل إلى الضفة الشرقية وإبادة 44 عنصرًا للعدو والاستيلاء على بعض الأسلحة والأجهزة الهامة واستمرت في عملياتها خلف خطوط العدو حتى سميت بمجموعة الأشباح.
وكانت في بداية العبور العظيم يوم السادس من أكتوبر 1973، واستشهد قائدها العظيم إبراهيم الرفاعي.. وإذا كانت دروس هذه الحرب كثيرة. لكن يبقى درسها الأهم وهو عبقرية القائد والمقاتل المصري. لأنها المرة الأولى في التاريخ التي يحقق فيها جيش النصر بأسلحة دفاعية. في مواجهة أحدث الأسلحة الهجومية، كما كانت العبقرية الفذة في تحطيم أكبر ساتر ترابي في العالم بخراطيم المياه.
والحقيقة أن المصريين لا يعرفون المستحيل بعد أن حققوا أعظم انتصار في الحروب الحديثة. وثاروا على الأنظمة الفاسدة وأسقطوها. وصنعوا ثورة أدهشت العالم وحطمت مشروع التقسيم. والآن يسطرون التاريخ في بناء جمهورية جديدة تنتقل نحو الحداثة والتطور والنمو.
حمى الله مصر
نائب رئيس الوفد
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا