المتغيّرات الحادثة منذ عقد من الزمان في منطقتنا العربيّة و خاصة في منطقة المغرب العربي تلقي بظلالها على علاقات «شمال- جنوب» في منطقة حوض البحر المتوسّط، إذ تبدو العلاقات بين فرنسا ودول المغرب العربي في أسوأ مراحلها.
الرئيس الفر نسي إيمانويل ماكرون المحاصر بعدة أزمات داخلية و خارجية، لم يفوت الفرصة في دقّ مسمار آخر في علاقات بلاده بدول المغرب العربي لتزداد تلك العلاقات تصدّعا حتى بلغت مرحلة إغلاق المجال الجوّي الجزائري أمام القوات الجوية الفرنسية، فيما يبدو الفتور واضحا على علاقات باريس بكل من تونس والمغرب على خلفية عدّة قضايا خلافيّة.
استفزاز فرنسي
القرار الفرنسي بخفض التأشيرات الممنوحة لدول المغرب العربي وحصرها في نسبة 30 في المائة، أغضب الجزائر التي سارعت باستدعاء السفير الفرنسي و إبلاغه انزعاجها من خطوات أحادية تتخذها باريس و تؤثر على العلاقات الثنائية، أعقبها قرار جزائري بغلق المجال الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية التي تنفّذ عملية «برخان» في دولة مالي و ردت باريس على القرار بأنه لن يؤثر على عملياتها، في حين نشرت صحيفة «لوموند» تصريحات منقولة عن قائد عسكري فرنسي أكّد فيها أنّ «هذه الأزمة سيقع حلّها و لن تؤثر على سير العمليات».
أمّا تونس التي انزعجت من القرار الفرنسي بالتضييق على طالبي التأشيرة، فإنّ الاتصال بين سعيد و ماكرون، كشف عمق الخلافات بين الطرفين. ففي حين ركّز سعيد على القمة الفرنكفونية التي ستحتضنها تونس مطلع شهر نوفمبر القادم، ودور هذه القمة في تقريب الشعوب، مما يعني رفضا تونسيا للقرارات الفرنسية، أصدر الإيليزيه بيانا طالب فيه بعودة الديمقراطية من خلال إجراء حوار مع الأطراف السياسية، في نبرة تبدو غاضبة، وتكشف ما خفي من خلافات عميقة بين الطرفين.
أمّا المغرب التي تخوض معركة متعدّدة الأوجه مع دول الاتحاد الأوروبي حول قضية الصحراء و الهجرة غير الشرعية و اتفاقيات الصيد البحري، فإنّ الرباط استاءت من القرار الفرنسي و اعتبرته غير مبرّر، في تصريح لوزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة.
أزمات ماكرون
يبدو واضحا أنّ الرئيس الفرنسي الذي يعاني من ضغوطات خارجية و داخلية كبرى خاصّة مع بداية المعركة الانتخابية، يريد تصريف أزماته نحو المنطقة التي يعتقد أنها رخوة و أنه يمكنه أنّ يحقق فيها نقاط فوز على منافسيه. فالرئيس الفرنسي لم يتخذ هذه الخطوة إلاّ لقطع الطريق أمام اليمين المتطرف الذي يرفع في كل انتخابات رئاسية و برلمانية شعار محاربة الهجرة بشكليها النظامي و غير النظامي.
هذا الضغط الداخلي جعل ماكرون يرتكب خطأ فادحا قد يجره إلى انتكاسات سياسية جديدة بما أن ردود فعل الدول المغاربية كانت خارج حساباته، بل إنّ بعضها كان صادما لماكرون، الذي تراجع وقال إنّه يمكن مراجعة هذه الإجراءات مستقبلا.
على فرنسا أن تدرك أن المتغيّرات الجارية في المنطقة. تنتج أصواتا جديدة ليس فقط معارضة للمصالح الفرنسية. بل إنها تطالب بمعاملة ندّية وسويّة دون استنقاص طرف من شأن الطرف الآخر.
الأصوات الصاعدة في دول المغرب العربي تعلي من قيمة السيادة الوطنية. و تطلب من فرنسا ذات الماضي الاستعماري في المنطقة. أن تتعامل مع دولهم بمنطق المصالح المشتركة. وأن تدرك أن القوى العالمية الجديدة مهتمة بمنطقة المغرب العربي كمنطقة استراتيجية في البحر المتوسط. وهو ما يمنح دول هذه المنطقة أوراق مناورة كبرى.
بل إن فرنسا على سبيل المثال و التي ترفع «ملف التأشيرات» كورقة ضغط في كل مرة. تتنصل من اتفاقيات سابقة مع تونس على سبيل المثال تنص على قبولها 9 آلاف مهاجر سنويا. ولكنها تخلّت عن تلك الاتفاقية بقرار أحادي. كما أن السفارة الفرنسية في تونس هي السفارة الأولى من حيث تحقيق إيرادات مالية. من طالبي التأشيرة، ومثل هذه القرارات غير المدروسة، من شأنها أن تؤثر على علاقات تاريخية. وتزيد من حدّة العداء لفرنسا لدى المزاج الشعبي. بل إنّ الأصوات المطالبة باستقلال فعلي عن فرنسا ستجد في كل قرار من هذه القرارات ما يعطيها مشروعية، مستقبلا.
العالم يتغيّر بطريقة متسارعة وفرنسا القديمة مازالت تنظر إلى منطقة المغرب العربي. كونها حديقتها الخلفية التي تتصرف فيها كمزرعة خاصّة. وهذا خطأ استراتيجي كبير من طرف باريس، سيؤثر حتما على علاقاتها بالشعوب المغاربية مستقبلا.
بدائل كثيرة
الرئيس الفرنسي لم يتخلّص من عقلية الوصاية التي سار عليها رؤساء فرنسا الذين سبقوه، وهو لا يدرك أن الزمن تغيّر و أنّ منطق الوصاية ذهب مع رحيل الاستعمار، بل إنّه لم يفهم أنّ أوروبا المأزومة لم تعد تلك القوة الوازنة في عالم القرن الحادي والعشرين وأنّ بدائل الشعوب المغاربية كثيرة، لو حرصت أنظمتها على تلبية مطالبها المشروعة و لو حاربت تلك الفساد الذي ينخرها و المرتبط في جوانب كثيرة منه بلوبيات فرنسية نافذة.
أمام شعوب المنطقة المغاربية بدائل كثيرة سواء على المستوى البيني أو على المستوى الإقيلمي و الدولي. وكما أشهرت فرنسا ورقة التأشيرات في وجه الشباب المغاربة. فإن دول هذه المنطقة بإمكانهم إشهار ورقة «العقول» والكفاءات المدرّبة والتي تعمل فرنسا. على الاستحواذ عليها بكل الوسائل وتقفل أبوابها في وجه من لا اختصاص له.
سلاح «العقول»، و سلاح اللغة الأجنبية الأولى يمكن أن تكون ورقات ضغط ويمكن أن تكون سلاحا قويا يردع فرنسا. فماذا لو اختارت الدول المغاربية، أن تكون الانقليزية هي اللغة الأجنبية الأولى بدل الفرنسية. سيكون ذلك أفضل من حيث التكوين ومن حيث الخبرات التي يمكن امتلاكها. و التي تفتح أبواب أكثر رحابة في أصقاع الدنيا بدل قصر الهمم على فرنسا المأزومة أو أوروبا التي فقدت بريقها. ثمة وسائل كثيرة لردع الاستهتار الفرنسي بالعلاقات مع دول المغرب العربي و الإرادة الشعبية هي أقوى الأسلحة.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا