عاش عاش عاش اللي قال الكلمة بحكمة في الوقت المناسب.. بتلك الكلمات كان يبدأ حليم حفلته بعد نصر أكتوبر المجيد 1973 وقيل إنها كانت تذكر السادات بالاسم. ولكنه طلب بنفسه التغيير قائلا إما يكون كل الزعماء الذين شاركوا مصر معركتها أو لا.
فاستبدلت بعاش ليكي ابنك عاش اللي حبك.. وهكذا كان عبد الحليم دائما يشعل جذوة الوطنية ويلهب حماس الجماهير. عندما كان يستهل حفلته بأغنيته القصيرة الشهيرة المعبرة بحلف بسماها وبترابها.
ولقد كان السادات الذي غير مجرى التاريخ محقا فقد شاركت الجزائر بقوات ومال وعتاد ولن تنسى مصر الزعيم بومدين وزيارته التاريخية لموسكو وتقديم شيك مفتوح للقيادة السوفيتية لتوريد السلاح وقطع الغيار التي أوقفوا إرسالها إلى مصر والطيران الليبي والقوات السودانية وإغلاق باب المندب ودعم الملك فيصل المادي والسياسي والشيخ زايد الذي أوقف ضخ البترول العربي إلى كل الدول التي تؤيد وتقف مع إسرائيل ومقولته الشهيرة أن «دم العرب أغلى واثمن من بترول العرب».
وإذا كان يوم 6 أكتوبر يعد أسطورة توقف عندها التاريخ العسكري بالبحث والدراسة فكيف اقتحم خير جنود الأرض أكبر مانع مائي وحطموا أكبر خط حربي وهو خط بارليف وإقامة رؤوس جسور على الضفة الشرقية للقناة في 6 ساعات مما أفقد العدو توازنه.
كنا في الأرض المحتلة في سيناء الغالية وفي شهر رمضان حيث كان الشارع الرئيسي «سوق المحاسنة» في حركته العادية ويفترش أرصفته بعض البسطاء من ملح الأرض يبيعون منتجات وادي العريش الخصيب من بعض الخضروات الطازجة.
ويصدح الراديو الذي لم يفارق آذان كل شعب سيناء منذ نكسة 1967 ينتظرون ساعة الخلاص.. البيان رقم 1 وظننا انه استكمال لما كان في حرب الاستنزاف بين المد والجذر.
ولكن البيانات تتوالى وتلتصق الآذان رويدا رويدا بالمذياع في كل المحلات ويكاد الشارع التجاري الرئيسي في مدينة العريش يتوقف وهذا ترك تجارته وذاك ترك سيارته حتى المتجولين تركوا بسطتهم ليلتصقوا بالراديو يحذوهم الأمل في نصر قريب بعد أن تجمعنا مرارة الهزيمة والتي دفعنا ثمنها غاليا نحن مع قواتنا المسلحة إذ هدمت بيوت ومساجد وكنائس فوق من فيها ودفنا خيرة شباب الوطن إثر قرار الانسحاب الغير مدروس والذي أرى مشاهده شاخصة أمام عيني حتى اليوم من زهرة شباب أجساد على مشارف الطرقات.
فهل أتى وقت الخلاص وأذن المؤذن «حي على الانتصار» لقد تاقت قلوبنا إلى حضن الوطن.. وماهي إلا سويعات وإذا ببيان العبور ولم نصدق أنفسنا هذا يبكي وتلك تزغرد. والألسنة تلهج بكلمة واحدة «الله أكبر» وتتعانق الرجال. ولم يذهب أحد في هذا اليوم إلى منزله كعادة ساعة الإفطار إذ كانت تغلق المحال.
ولكن الإفطار كان جماعيا بلا ترتيب «وعلى ماقسم» لتستمر البيانات ويستمر الفرح وكنا نرى جنود الاحتلال يمرون بسياراتهم مسرعة وما أن ارخى الليل سدوله انتشرت الدوريات الراجل من الجنود تجوب الشوارع وهم يحملون أجهزة اللاسلكي على ظهورهم في مجموعات مشهرة أسلحتها.
وفي الأيام التالية كنا نلتقي مع أقراننا من الذين يحملون الوطن في قلوبهم.. وعندما رأينا الجسر الجوي الأمريكي يلقي بالمعدات والمدرعات على شاطئ بحر العريش لتصل إلى الجبهة في أسرع وقت. قررنا بعقولنا الصغيرة وحبنا الكبير أن نحاول إعاقتها بأي شكل. وتشكلت مجموعات تلقائية تقف على الطريق الدولي وسط النخيل لنضع متاريس على الطريق من جذوع النخل تارة ومن الواح الخشب بعد دق المسامير كالخوازيق تارة أخرى ولما وجدناها غير مجدية في كاوتش المدرعات لضخامته ذهبنا إلى الحدادين والعم أبو حنفي لعمل خوازيق حديدية وهم الأشهر في مدينتنا وخافوا أن يكتشف العدو أمرهم فيحرق متاجرهم ويشردهم فعلمونا كيف نصنع ذلك. وإن كانت محاولات بسيطة أوحتها لنا عقولنا الغضة ولكننا كنا ومازلنا نفتخر بها إذ كان الهدف تعطيل وصول الإمداد إلى الخطوط الأولى.
وكان من بيننا بعض الشباب الحصيف الذي أوحى لنا بدهان أجسامنا. خاصة الأرجل بالسولار حتى لو أطلق العدو كلاب قص الأثر لا يصلوا إلينا. وهكذا تمر الأيام.. لنتذكر قول الزعيم المغدور الذي قتله أعداء الحياة «أنور السادات». سوف يجئ يوم نقص فيه ونروي ماذا فعل كل منا في موقعه. وكيف حمل كل منا أمانيه وادى دوره وكيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة. في فترة حالكة ساد فيها الظلام ليحملوا مشاعل النور. وليضيئوا الطريق حتى تستطيع أمتهم أن تعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء.
رحم الله الشهداء الذين رفعوا رؤسنا وتحية لكل من بقي من هذا الجيل الذهبي وتهنئة خالصة لقواتنا المسلحة درع الوطن وسيفه في أمجد أعياده وأعياد مصر بل والأمة العربية.